أشعل
لقاء عنتيبي بين الرئيس البرهان ورئيس وزراء إسرائيل جدل العلاقة بين السودان وإسرائيل
مثلما أثار أوار جدل مزمن على مستوى عربي أوسع. فعلى المستوى السوداني ظل موضوع التطبيع
أشد حساسية وأكثر تعقيدا مما يتخيل أي إنسان. ويعزى ذلك لتنشئة أجيال سودانيه على رفض
النقاش في العلاقة مع إسرائيل. لدرجة أن قضية فلسطين أضحت أشبه بمقدس لا يقبل
النقاش أو (بتابو). تستوى في هذا التوجه أحزاب الوسط السوداني واليمين واليسار العروبي
فهؤلاء بلا ساثناء يرفضون التطبيع لأسباب أخلاقيه ، أحيانا موقفيه (إحنا أصحاب مؤتمر
اللاءات الثلاث). واستطراداً يصعب استثناء السوداني العادي الغير المنتم. ولهذا
يصح الاستنتاج بأن الأمر في تجلياته يمتد عميقًا في الوجدان والثقافه والموروث السوداني.
فكل سوداني تقريبًا يولد وهو يكره اسرائيل، ويربط السوداني بين إسرائيل وفكرة (الاحتلال)
من حيث هو
per se )).
قد تتغير الأجيال ويتغير تفكيرها ولكن تظل أجيال سودانيه ترى في إسرائيل (تركيه)، وترى فيها حملات الدفتردار وصلف غردون وعنصرية
إبراهيم باشا ومذابح كرري ومجازر الشكابة و(الأسر الفظيع) للسودانين والسودانيات في
سجون رشيد وعراء معسكرات حلفا والاسكندرية وقتل سودانين بالسل أو بغيره. إسرائيل
هي هذا الماضٍي المُرٌّ الذي يثقل صدر السوداني. هذا الاستعداد الوجداني السوداني أفلحت
الأنظمة الشموليه السودانيه في استغلاله وتوظيفه لشرعنة وجودها فبقدر تطرفها في
(هجاء) إسرائيل (لفظيا) تمنح (الشرعيه) الشعبيه. لا عجب أن صارت لقضية فلسطين مسحه
من القدسيه. وفي الحقيقه لشموليه السودانيه تستلف من مثيلاتها العربية التي تفوقت
عليها باستخدام السينما والدراما التلفزيونيه والمسلسلات الممولة في خلط حقائق الواقع
بالخيال. ولهذا عندما استيقظت الشموليات، على واقع تمدد إسرائيل وتجاوزها حدود
فلسطين إلى احتلال بيروت وضرب مفاعل تموز العراقي وقصف بورتسودان وتدمير مصنع
الذخيرة بالخرطوم، شرعت في تسليك قناة التعامل السري.. في مزج عجيب بين خيال
الدراما التي تهزم إسرائيل وواقع ينفي هذا الخيال.
لهذا
أي محاولة للتطبيع مع إسرائيل ستصطدم بواقع ثقافي يربط تلقائيًا بين (المطبع
والخائن). يزيد الطين بله أن رئيس
وزراء إسرائيل الحالي يقود توجها يمينياً، يغذي هذا التوجه. فهو لا يكتفي بارتكاب جرائم
الحرب بل ينظر لمستقبل إسرائيل عبر الجرأة على تجاوز المحرم دوليًا وإنسانيًا. فضلا
أن السيد بنجامين نتن ياهو شخصيًا لا يرغب في إغلاق مآسي الماضي والحاضر ، لأن مبرر
استمراره في الحكم رهين بشرعنة الاحتلال وتغييره إلى ضم فاستيطان مربوط بعملية
استئصال ممنهج تنتهي بتحقيق شعار (يهودية الدوله). وهكذا تستمر إسرائيل تجوس
العواصم العربيه على نحو ما تسحل أطفال فلسطين في أزقة القدس وبيت لحم وتحرق
النساء بالنابالم وترميهم بالحمم لأي سبب وتحت أي مبرر.
ورغم
أننا لا نعرف الكثير عن وقائع الذي جرى في عنتيبي، إلا أن هذه الخلفيات ليست بغائبة
عن ذهن الرئيس البرهان . بما في ذلك تعقيدات التوقيت. والتزامن بين إعلان (صفعة)
القرن والرفض العربي الفلسطيني. ولكن (البرهان) مكره لا بطل ومن اضطر سيركب الصعاب.
كما أن العلاقت العربية الإسرائيليه السريه والمعلنه أدخلت إسرائيل ضمن المعادله الداخليه
الوطنيه لأي دوله عربيه تقريبًا. فصارت إسرائيل مدخلا لعلاقات مع أمريكا وأحيانًا وسيله
لتوازن القوى في شرق المتوسط وغرب آسيا. فإيران وتركيا صارتا بأطماع إمبراطوريه
وأنياب. هذه الخلفيه استصحبت على مستوى العلاقة السودانية بالولايات المتحده فالرئيس
البرهان يعرف أن هذه العلاقه دخلت في متاهات وشروط تلامس المستحيل. وأن الاقتصاد
السوداني والبنوك والقروض ترتبط بشريان العلاقات الخارجيه. فهذه العوامل هي التي تدفع
القيادة السودانية إلى رؤية الواقع بأربعة عيون ولا عجب أن تلتمس الحلول ولو في (المحرمات)
أي خيار (التطبيع). إنه البحث عن قشة للعبور أو فتح كوه في علاقه ما سيدة العالم. والشيء
بالشيء يذكر. ففي زمن سابق مماثل دفع الإضطرار السفاح جعفر نميري (لتطبيع) سرى
وعندما يقبض متلبسًا يلفق (أن ذلك يتم وفق قرارات الشرعية الدوليه). فالرئيس
البرهان يدرك هذا أو يفترض إدراكه له فقط أخذ عليه الاحتماء (البعدي) بالقوات
المسلحه والتسرع. لأن أغلبية أهل السودان يرون أن ذلك سيكون مجرد سباحه في مجهول تنتهي
إلى ما انتهت إليه محاولات السفاح جعفر نميري الذي أيد اتفاقية كامب ديفيد مضطرا ثم
قابل شارون مضطرا ثم استجاب لشروط الأمريكان بتهريب اليهود الفلاشا لإسرائيل ثم
انتهى إلى مصيره المعروف. وانتهت (قناته) السريه مع الدولة العبريه إلى ما يجب أن
تنتهي إليه. فليس ثمة مفارقة من أن تظل أجندة إسرائيل المستبطنه والمعلنه، مستمره
حتى بعد فصل الجنوب ورفع أعلام الكيان الصهيوني فوق سماء جوبا.
وعود
على بدء ، تظل العلاقه العربيه مع إسرائيل مثل (تابوtaboo ) محرم وفي آن مثل(أسطورة تنين) كلما قطع من
جديد نبت. ولهذا تظل العلاقه مع إسرائيل تراوح مكانها وما يمنع موقف أخلاقي مع
القضية الفلسطينيه يقوده وعي سوداني بالتاريخ . ولهذا المزايدات الفلسطينيه ما (حبابها)
وبالذات من أمثال السيد صائب عريقات لأنه قيادي فلسطيني وعربي ، عرف السودان ويعرف
موقف السودانين.، فمزايداته مستنكره مثلما أن حرق العلم السوداني ولد ردود أفعال
شعبيه سودانيه (طلعت المكشن). لهذا رد
فلسطيني (عاقل) هو يوسف العلاونه. وأختم بتعاطفي مع أهل فلسطين وأهدي الهجائين تبكيتة
سودانية. فقد سخر سودانيون بأن قالوا (حلايب محتله والفشقه مستباحه وعلاقاتنا مع
المحتل سمن على عسل بينما مقاطعين إسرائيل لأنها تحتل أراض ناس هم أنفسهم مطبعين
معها.)