…وداعا حبر الطريقة الجيفارية… وملك الشوارع
قضي باردوس عمره ….عابدا.في محراب الالتزام
( بالله … داك بيتنا وما قادر اصلو ) جال صوته المميز صدي ذكري ، وحزنا يعتصرني و تهزمني الدموع ،وانا اتابع سطور كتبها القاص والأديب المحترم عادل القصاص ينعي صديقنا الفنان التشكيلي فتح الرحمن خير الله (باردوس ) غالبا الحزن الفاجع يلغي عقلي ويجرده من قدرات التصرف وحكمة التفكير ، وتحتل شكوك شتي لا منطق لها وتصادر مساحة الوعي لتنعكس بطريقة سطحية ساذجة علي الوجدان . فاتحة نوافذ التساؤل (العدمي ) ايرحل مثل (باردوس ) ونشهد خمود براكين إبداعاته المدهشة واين تسكن محبتنا له .فاعذرني يا (صديقي ) توهمت لا مجال لحضور مشاهد نضوب نشيد الحياة فينا وانتحار احلامنا، ولَم تحدثني الأمارة ستكون خاتمة معركتنا مع الأمل ( راية بيضاء) نرفعها كفنا ليغمرنا صمت ابدي ، كنت دوما اردد بسذاجة احسد عليها وبلا وعي (عند الفجيعة) أدعية مأثورة لرحمة المتوفي وأمنيات حسن القبول ، وأؤمن باستحالة عودة من ودع ورجوع من رحل ، خانني حزني ومصيبة رحيلك لم تلغي عقلي ، وتنسحب علي وجداني لأردد بذات السذاجة أدعية لرحمة الراحل ، وكأني متهرب من حقيقة وداعك الأبدي ، ولكي اصالح وجعي مع عدمية الإنكار حاولت بلا ضمير خداع روحي وحوارها بمنطق الموت هو فناء والفنان لا يموت صدي أعماله كتب خلودها (وكائن الإبداع أزلي لا يقربه الفناء ، ونبل الخلق خالد ما بقيت دار الفناء ) ،وانا افتقدتك و اشهد لك بفضيلة النبل والإبداع وأزيدك بيتًا من الفضائل لم أقابل مثقفا في التزامك .
استهلت مقالي ( المرثية) بعبارة الراحل (باردوس ) و لاكتمال تفاصيل صورة إطلاقه العبارة ( داك بيتنا وما قادر اصل ) ، قالها ومساحة حريتنا ( حدود محبس كوبر) يقيدنا اعتقال سياسي في عام ٨٩ – ٩٠ ، ردد ( الراحل ) عبارته مرارا وفي أزمان مختلفة وهو رهن القيد مرسلًا النظر( لهفة وحنين) لمنزل يألفه (باردوس ) عبر ثقب الباب الضخم القديم يطل خارج السجن علي حي كوبر ، ويجاور داخل محبسنا ميدان صغير نستغله (للرياضة ) اذا وافقت رغبتنا مزاج السجان المتأرجح وتعاطف الحرس ، ابن حي كوبر العريق (باردوس ) كان يري ( حقيقة )بام عينيه بيت أسرته ، و قيد الاعتقال وأسوار السجن تمنعه من طرق ابوابه .
طرد هموم وهواجس السجون تحتاج الي خبرة وتكنيك لصرف الذهن عن تلك الهواجس ، ويشكل الأنس الحميم دواءها الناجع وهذا كافيًا لان يتصدر( باردوس )مسرحنا بكوميديا ومقطوعات تصويرية من إخراجه تتناول (قفشات ) لحظة تنفيذ الاعتقال ( كان مفاجئا وخارج حساباتنا) ، عناصر امنية وحوشًا في لباس أدمي ، حسهم الإنساني منعدم والرحمة تجافيهم ، كشف لنا سر ضحكته التي دفع ثمنها تنكيلا حين ما عرف نفسه ضابط الأمن (نقيب ابو النجا امن الثورة ) الضحكة الساخرة سببها (الاعتقال أضاع دعوة فرخة مشوية ) واصل بسخرية (ما لي ومال الجداد … وعارف عيزومتك ما حتحصل بس ما بالنهاية دي )ضحكة مجلجلة ويوصل حديثه ( النهاية ناكل الجراية ) والجرايه خبز السجون السودانيه .
كان باردوس فنانًا متفردا يطلق عنان خيال عبقري لأعماله يغزو عوالم بديعة لا يفك طلاسم سحرها الا نبي علم بواطن اللوح الأزلي ، مهنته التي يتكسب منها خطاط ومصمم صحفي ، انتماءه للفقراء في كل الأزقة ينشدون صامدون وصامدون ، تفاصيله ابتسامة عذبة علي وجه طفولي ، وعيون تعكس تفاؤل وامل وكبرياء تجعل أنحاءه لعاصفة او انكساره مستحيل، أرجل ساعية في حركة دائمه نحو الوعي والثورة ، وتجنح احيانا للتسكع ، تجده حاضرا باتحاد الكتاب ومحاورا في دار التشكيليين ،وذات اللحظة يشاهد معرضًا ،وناقدا لقصيدة ألقيت في المركز الثقافي الروسي وفي الصحيفة تجده منهمك يصمم الصفحات ويخط عناوين الأخبار ، حركة نشطة وليدة التزام اخلاقي بقيم امن بها وقدم من اجلها تضحيات نادرا تجد احدا قدمها مثله ، اوضاع أسرته ( لا يعلمها الكثيرين ) فرضت عليه قدر (الكافل الأوحد ) لوالدة وفي حضانتها ( ٩ أطفال قصر )ابناء بناتها الراحلات عن الفانية ، وسرعان ما تضاعفت عليه المسؤولية والحزن برحيل زوجته ام ابناءه لتحيله أبا وأما .. لم يتنازل عن التزام انحيازه لقضيته رغم كفالته أيتام زغب الحواصل لا ماء ولا شجر فاختار طوعا وانحيازا السير علي طريق المخاطر والانتماء لقضية الديمقراطية والالتزام بعواقب قناعته غير مكترث لوعورة الدرب ، فالوطن التزام علي عنق صاحب القضية ، قاده وعيه لاقتفاء درب (تشي جيفارا ) مومنا بطريقته الفذة (الثورة لا وطن لها) ، والثائر حظه ما سد رمقه ومكنه من مواصلة النضال مع الفقراء . كان (باردوس )صوفيا زاهدا سلك درب الطريقة الجيفارية وأخلص . ووصل أسرها الأعظم وصار من صفوة الأحبار الذين حفظوا ألواح الثورة وتعاليمها المنقوشة بدماء الثوار منذ الأزل . قضي حياته الحافلة عابدا متبتلا بمحراب الالتزام يدون أفكاره بقلم رصاص او يحرك ريشة تطفي نيران (قلقه ) بألوان وخطوط متناسقة ورشيقة تبكي موهبة وتفرد .
خطواته ستفقدها شوارع ( عشقها وعشقته) ، في معيه خطواته متعة تنسي تعب المشوار و زمهرير الشمس ، وتكون شاهدا تشاهد عيان وبيان (نبل الخصال ) وتدهش لروية الحبر الجيفاري يتقاسم الخبز والحرمان مع (المشردين) ( الشماسة) عرف كل الاسماء وألقاب ، يطعمهم ، يحل مشاكلهم ، ويتولى علاجهم ، ويتوسط لدي الشرطة لإنقاذهم ، وتحكي صديقة ان احد المشردين هم بخطف حقيبتها ، نهاه متشرد اخر (خليها دي صاحبة باردوس )، وطبيعي ان يكون اجتهاده في سفره الإنساني الذي زين به المكتبة السودانية عن التشرد والمتشردين .
العين تدمع والقلب يحزن ويشق علينا نباء نعي رجل بهذا النقاء والنبل والابداع والالتزام ، فارس بربر وقديس الخرطوم، الا رحم الله باردوس في برزخ الصمت الأبدي وألزمنا الصبر في هذه الفاجعة ، فنم يا صديقي وارتاح اخيرا فلم تكن لك راحة في ديناك