لعل المتابع لما دوِّن من تاريخ السودان إبان الدولة المهدية وما بعدها إبان الاستعمار الانجليزي (الحكم الانجليزي المصري) بعد كرري، يلاحظ التغييب الواضح والتعمد لحقائق وتفاصيل أهم الاحداث والأنشطة التحريري العديدة التي انطلقت من كل اقاليم السودان ابّان تلك الفترة من أجل التحرر ومحاولة ربطها بالأحداث المصرية الداخلية المتشابهة او بالقرار المصري الداخلي.
ويأتي في اطار تلك المؤامرة التضخيم لحادثة اللواء الأبيض لارتباطها بأجندة المصريين واطماعهم في السودان، وغض الطرف عن أحداث أكثر عنفواناً وتأثيراً شعبيا في الأطراف كثورات عبدالقادر ودحبوبة والمك ودعجبنا وثورات المساليت والدينكا وغيرها من الأحداث الفئوية والعديد من الأنشطة الفردية الرافضة للاستعمار.. وهنا أرى أن الدور المصري الكاتب المدون الأكثر نشاطا للأحداث كان حاضراً.
وفى إطار هذه الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الحديث للسودان، أرى واجباً علىَّ أن أشير بكل الفخر ما سجله الدكتور عبدالله حمدنالله في تسجيلات في الراديو والقنوات الفضائية وما سطر ويسطر قلم الدكتور عبدالله على إبراهيم من كتابات راتبة حول الشخصيات الوطنية ومختلف الوقائع الوطنية، ونقدر جهوده الوافرة من أجل التثقيف والتنوير وتوطين الفكر والثقافة وحول تصحيح الروايات والاختلاقات للأحداث وفى إطار تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة وبعض ما اريد له ان يكون من المسلمات في تاريخنا الوطني السياسى والفكرى الحديث وما قبل الحدي. كما أشير الي الاستاذ محمود مادبو كأحد الشباب المهتمين بتفاصيل الاحداث التاريخية واهميتها وضرورة توثيقها وهو من الباحثين بحب في تاريخ السودان.
هذه المغالطات حول الأحداث الوطنية وما تم من عمل لطمس الحقائق قد أضرت كثيرا بتاريخنا الوطنى وشوهته، وادت لضياع وتغريب وتغييب نسبة مقدرة من الأجيال اللاحقة، فتغربت روحاً وفكراً وتبنت مدارس أجنبية نشطت في محاولة الأساءة للوطن وتاريخه ورموزه، في سبيل تثبيت أركانها. هذا النشاط الواسع المدعوم في تواصل مع أنشطة اجنبية إنتهى إلى إستسهال التفريط فى الوطن، ارضاً وشعباً وتاريخاً، وربما مستقبلاً إن لم يتم تدارك هذا الأمر فى الوقت المناسب سيؤدي الي انشار الوطن الي عده دويلات. والمطلوب الآن ان يتحول هذا الأمر من هم فئوي محدود في إطار أكاديمي الي هم وطنى شامل يطلع به كل القطاع المثقف في الوطن ويضمن في مناهج التعليم الرسمي ومناهج التربية الوطنية.
قرأنا للدكتور على عبدالله ابراهيم مقالات حول تقدمية الدولة المهدية بمقاييس الزمان وحول الأدوار التي قام بها الخليفة عبدالله ودتورشين كرجل دولة. وأرى ان الطيف المثقف محتاج لإعادة قراءة التجربة المهدية كدعوة وثورة ودولة ميزت الوطن من بين دول العالم، والذى كان على مسارين اما مستعمَرين او إستعمار، ولفتت إنتباه شعوب العالم للشعب السودانى وما قام بها من ثورة عظيمة ميَّزته من بين كل شعوب الأرض المضطهدين حينذاك، فى إطار الصراع الإستعمارى للعالم الثالث في القرن التاسع عشر.
وأرى أن الوقت قد أزف لكل المثقفين وخاصة المؤرخين لإنشاء مركز وطنى للدراسات والتحقيق التاريخي في كل الجامعات الوطنية العريقة وخاصة جامعتي الخرطوم والاحفاد، ليؤسس للتحقيق حول الاحداث والانشطة والثورات الوطنية الغيبة عمداً، والمشاركة المكونات القبلية والفئوية في المركز والولايات المختلفة، أثناء فترة الحكم الانجليزى (المصرى) والتى ووجهت بسياسة متكاملة لطمسها وإزالتها من ذاكرة الوطن، بخطة محكمة لدولتى الحكم الثنائي، وما كان يتم من تغييب السجناء بابقائهم لمدد طالت أحيانا الأربعين عام داخل السجون في محاولات متعمدة لعزلهم عن الشعب وتغييب دورهم ومن خلال ممارسة الحروب النفسية عليهم لافراغهم من عزائمهم وتبديد تأثيرهم على الناس، حتى مات بعضهم بالسجون وأصيب بعضهم بالهذيان او حتى الجنون كما كان بشأن المجاهد الوطني المهدوي الخالد عثمان دقنة والذي قضى بالسجن ٢٨ عاماً والمناضل الوطني الخالد على عبداللطيف الذي قضى بالسجن اربعة وعشرون عام انتهت بقف انه لعقله وموته فيما بعد.
عاش السودان خلال المئة عام الماضية بعيد كررى محاولات عددية لتغريب الأجيال وشدها بعيدا عن تاريخها الوطنى الباذخ فى المهدية وما قبل وما بعد المهدية، وعن تجارب الشعب السوداني العظيمة فى قيام الدول والممالك العظيمة وفي الوقوف ضد الاستعمار ومحاولات التغريب وطمس الهوية. كانت تلك المحاولات تتم بعناية حتى يسهل خلخلة الأجيال الجديدة وتشتيتها واضعاف احساسها المشترك بالوطن ومن ثم التهام أرضها وثرواتها خاصة من جيراننا فى شمال الوادى، وقد نجحت تلك الخطة إلى حد كبير عطفا على الواقع الذي نعيشه اليوم.
تجربة الإنقاذ التغريبية والتى إهتمت بالخارج أكثر من الداخل، أكدت أهمية العودة لتاريخ وطننا العظيم والاحتماء به والتحصن والالتفاف علي أسس وحدته وقوته وعلى ما يميز انسانه وما تكتنزه أرضه من ثروات وما يتميز به إنسانه والبناء على كل ذلك من أجل تمتين اواصر الوحدة الوطنية وتغذية الوجدان الوطني الموحد.
تجارب الصراع السياسي ما بعد تكوين الأحزاب السياسية شهدت انشطة مضرة بالتماسك الوطني وادت الي نزاعات ليس حول الحكم فقط وانما حول المشتركات الوطنية، وهو امر خطير ينذر بالانشطارات العظيمة الي عدد من الدول.
هذا الأمر يتطلب إجراء حوارات ودراسات عميقة ليس في إطار النخب وإنما في الاطار الجماهيري الواسع يجب أن تسبق المؤتمر الدستوري وتؤسس له، وتعكس الحقائق وسط الجماهير ،حتى لا يكون المؤتمر الدستوري انكاسا لتطلعات النخب وما يؤمنون به من رؤي منفصلة عن الواقع، لأن امر المستقبل يجب أن يكون ملكاً للجماهير وليس للنخب.