محمد علي كلاي، ذلك الأمريكي الأسمر، كان ملهباً لحماس العالم في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم. بقبضته اليسرى المنفلتة من قوانين الفيزياء، كان واثقاً من علو كعبه على منافسيه في حلبات الملاكمة. أمه، أوديسا، كانت أول من تنبه إلى القدرة الخارقة لقبضته اليسرى. إذ حكت أن طفلها وهو في شهره السادس كان عندما يطلب الثدي، يخبط على وجهها خبطاً سريعاً قوياً مؤلماً بيسراه، إلى درجة أن فكها قد ارتخى تحت وطأة ضرباته لتفقد أسنانها جميعاً عندما تقدم بها العمر. أما هو فقال لاحقاً إن نجاحه في الملاكمة إنما كان يستند إلى قوة تركيزه العقلي، وصرامة تمارينه الجسدية.
هذه المقدمة أردت أن أمهد بها لحديثي عن بطل من زمن سالف.
بطلي هو تيجاني مهدي، المعروف لدى أهل أمروابة بتيجاني فتوة. يعزى لقب الفتوة إلى شراسة منازلته لمن ينازعه في الحفلات التي يؤمها. كان يبادر إلى ملاكمة خصومه في جسارة ليصرعهم واحداً تلو آخر. كان لا يهاب شيئاً.
الآن، وبأثر رجعي نستطيع القول لو أن الظروف كانت أتاحت له تدريباً على الملاكمة في مطلع شبابه، لتقدم في هذا المضمار تقدماً لا يعلم إلاّ الله مداه. ولتيسر له توجيه قدراته الكامنة وجهةً أفادته وأفادت المدينة وشبابها. لكن مجتمعاتنا في ذلك الزمن لم تكن تأبه للموهوبين أو من يحملون جينات موهبة. يصدق ذلك على كل ضروب الرياضة وأنواع الفنون. لعل ما يخفف الأمر أن هذه المجتمعات كانت تعاني فقراً نسبياً، وتعيش في عزلة عمن حولها من مدن وعواصم. فهي معذورة إذن.
كان التيجاني أنيقاً، وعلى قدر لا يستهان به من ثقافة، برغم محدودية تحصيله الأكاديمي الذي اقتصر على المرحلة الوسطى في سبعينيات القرن الفائت، وهي مرحلة كانت تكفي لتزويد الخريج منها بمعين لا بأس به من المعارف واللغة الإنجليزية.
عمل قارئاً لعدادات المياه، وأتاح له ذلك العمل معرفة المدينة من أقصاها إلى أقصاها. بل توطدت صلاته بالناس الذين أحبوه حباً جماً. كان المجد مجدان في نظره: مجد موروث ومجد مكسوب. وآثر التيجاني أن يكسب مجده في المدينة من حر جهده… ثقافة وسط المثقفين، وفتوة بين أنداده من الشباب مفتولي العضلات في الهزيع الأخير من الليل. كان التيجاني في النهار في ذروة الأدب ودماثة الخلق واستقامة السلوك. أما إذا دخل الليل، فيخرج من جنباته شيطان يستعصي على الترويض.
في تلك الأيام، كانت المدينة، والحق يقال، مغرمة بأفلام الكاوبوي التي تعرضها السينما. وقتها كان الشباب شغوفاً بمغامرات جاك بلنص ولي فان كليف وراينر شون وكلينت إيستوود. كل ذلك كان صراعاً عبثياً، وشباباً لاهياً، وقضايا فارغة لا تلامس معايش الناس ومشاغلهم.
بيد أن التيجاني، وعلى الرغم من الشيطان الذي يتلبسه ليلاً، فهو لا يفتقر إلى الحكمة والقول الفصل في شؤون الحياة. مثلاً كان يؤثر طلاب المدارس خاصةً ويمحضهم خالص وده وصادق نصحه. كان يقول لهم: إذا أردتم التفوق حقاً، فعليكم بإتقان الرياضيات والإنجليزي. وكان محقاً في قوله ذلك ومخلصاً فيه، إذ استفاد منه كثيرون ممن يذكرونه حتى اليوم بمزيد من الحب.
قبل هذا الوقت، وتحديداً في ١٩٦٢م، كان الأديب العالمي نجيب محفوظ قد أصدر روايته الشهيرة: «أولاد حارتنا» التي تمجد الفتوة، وتراها نسقاً طبيعيا، بل غريزياً، في الحياة. كذلك نشأ أبناء الجبلاوي الجد الأكبر على الفتوة التي ورثوها من جدهم وأورثوها لبنيهم من بعدهم. فتوة ومعاناة دون انقطاع. إنما الذي ينقطع هو طريقة التعبير عن الفتوة وسبل مواجهة المعاناة من جيل إلى آخر.
بذلك نزعم أن بطلنا لم يخرج قيد أنملة من الأعراف الراسخة في مجتمعه، وهي أعراف لطالما مجدت النخوة والبطولة والشجاعة.
من هنا يظل التيجاني جديراً بتقدير مدينته بعدما ذهبت أمارات الفتوة، وانمحت مقوماتها، وارتخت عضلاتها، ولم يبق في يدنا سوى ذكريات باهتة لماضٍ تليد.