“إنّ بلادنا الحبيبة لم تنعم باستقرار في الحكم منذ
إعلان استقلالها في عام 1956م، وكان تاريخها طيلة تلك المدة سلسلة من المآسي
تضافرت فيها عوامل الفساد، وتآمر المغرضون من الأحزاب المختلفة على مقدراتنا،
وتحول الاستقلال على أيدي الحكومات المتعاقبة إلى مسخ قبيح خلا من كل محتوى
ومضمون، وفتحت أبواب البلاد للنفوذ الأجنبي، وتسللت قوى التخلف والرجعية إلى
بلادنا، وأحزابنا السياسية تدور أبداً في فلك الاستعمار”.
ما سبق جزء من بيان انقلاب مايو بقيادة العقيد جعفر نميري
الذي انقلب على الديمقراطية بحجة الفساد والرجعية وعدم الاستقرار، وإلقاء التبعة
على الأحزاب.
وجاء في بيان انقلاب عمر البشير (الإنقاذ الوطني): “إنّ
قواتكم المسلحة المنتشرة في طول البلاد وعرضها ظلّت تقدم النفس والنفيس حماية
للتراب السوداني وصونًا للعرض والكرامة، وتترقب بكل أسى وحرقة التدهور المريع الذي
تعيشه البلاد في شتى أوجه الحياة، وقد كان من أبرز صوره فشل الأحزاب السياسية،
بقيادة الأمة، لتحقيق أدنى تطلعاتها في الأرض والعيش الكريم والاستقرار السياسي
حيث عبرت على البلاد عدة حكومات خلال فترة وجيزة، وما يكاد وزراء الحكومة يؤدون
القسم حتى تهتز وتسقط من شدة ضعفها وهكذا تعرضت البلاد لمسلسل من الهزات السياسية
زلزل الاستقرار وضيَّع هيبة الحكم والقانون والنظام”.
وكالعادة تُقدِّم القوات المسلحة نفسها على أنها حامية
الحمى، وأنَّ كلَّ ما عداها يحفه الفشل، وهي تأتي دوماً لإعادة الاستقرار، وهيبة
الدولة.
وبتقييم بسيط نجد أنَّ نظام مايو ذهب بانتفاضة شعبية عارمة
غضباً من المواطن الذي عانى الأمرّين، وهو يلهث وراء متطلبات الحياة، ويعيش في سجنٍ
كبير، بعد أن صادر النظام حريته، وضيّق عليه سبل التعبير عن رأيه، وأشعل الحرب في
جنوب البلاد، ومكّن الإخوان المسلمين الذين وضعوا أياديهم على مقدرات البلاد،
وهيمنوا على اقتصادها، وتمددوا كيفما يحلو لهم.
أما نظام الإنقاذ الذي جاء ليعيد الهيبة للقوات المسلحة وللدولة
فقذ ذهب غير مأسوف عليه، وقد أضاع جزءاً عزيزاً من تراب الوطن، الذي نهب ثرواته،
حتى أصبح الفساد سمته وعنوانه الرئيس.
ما يقودني إلى فتح هذه الصفحات السوداء هو ذلك المبرر (الفطير)
الذي ساقه رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وهو يريد إقناعنا بأسباب
لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في (عنتيبي) بيوغندا.
قال البرهان في مسوغات خطوته: “قمت بهذه الخطوة من
موقع مسؤوليتي بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني، وتحقيق المصالح
العليا للشعب السوداني”.
يمارس البرهان على الشعب السوداني الأبوية ذاتها، التي
مارسها نميري والبشير، ويصوّر نفسه بطلاً منقذاً للشعب، فهو يرى ما لا يراه
الآخرون، ضارباً عرض الحائط بالوثيقة الدستورية التي تحدد المسؤوليات، والسلطات،
ومستهيناً بشركائه في الحكم، وبالشعب كله، ومتجاوزاً حدود صلاحيات السلطة
الانتقالية التي ليس لها حق الخوض في قضايا مصيرية تحتاج إلى حكم مدني ديمقراطي
يقرر بأمر الشعب ما هو في مصلحة البلاد والعباد.
أخطر مؤشر لهذا اللقاء أنَّ البرهان ما كان له أن يخطو هذه
الخطوة من دون غطاء إقليمي ودولي، وهذا ما يعني أن هناك من لا يزالون يراهنون على
العسكر، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية التي عانت من ممارساتهم، حتى
حاصرت السودان، وأذاقت مواطنه المرّ سواء أكان في داخل البلد أم خارجه، بتهمة
رعاية الإرهاب، وظل النظام قابعاً على الصدور، وما أزاحه إلا الشعب البطل بإرادته
القوية وعزمه الأكيد، وهو الذي عانى من حصار النظام وأميركا في آن معاً.
وما درى من حملوا البرهان على هذه الخطوة أنها سوف تفتح
المجال للموتورين ليمارسوا إرهابهم على شعب مسالم، بينما تهنأ إسرائيل ذاتها
بالأمن في كنف أميركا، وقد رأينا العجب وذيول المؤتمر الوطني تتهم “الشيوعيين
الكفرة” بأنهم وراء هذه الخطوة، بينما يعرف القاصي والداني موقف الأحزاب
اليسارية عموماً من الصراع العربي الإسرائيلي، وهؤلاء هم أهون الإسلاميين، فهناك
داعش والقاعدة وحاضنات الإرهاب الأخرى باسم الإسلام، وهي لا تجد مرتعاً إلا في مثل
هذا الجو الذي يريد أن يحلّق فيه البرهان بدعوى مصلحة الشعب وحفظ أمنه.
وحدث ولا حرج عن صعاليك العرب الذين استهدفوا الشعب
السوداني وهم لا يستطيعون توجيه حرف ضد الدول العربية التي بينها وبين إسرائيل علاقات
تتجاوز في عمقها وحميميتها ما بينها وبين شقيقاتها العربيات، وقد وجدوا الفرصة
لادعاء الشجاعة والبطولة لمهاجمة خطوة قام بها فرد غير مخوّل من الشعب السوداني، وهم
يعرفون قبل غيرهم مواقف هذا الشعب المشهودة سواء بمشاركة قواته المسلحة في كل المواجهات
مع إسرائيل، أم باحتضانه الفلسطينيين وغيرهم بأريحية أبهرت الجميع، وسار بذكرها
الركبان.
إنَّ خطوة البرهان لها دلالات أعمق من مجرد فتح صفحة جديدة
مع إسرائيل، فهي في ظني تمهيد للبيان رقم (1)، فحلم السلطة يظل يغري العسكر، فهم
يظنون أنه لا استقرار ولا حياة إلا في حضنهم الدافئ.
حمى الله البلاد من شرور بعض أبنائها، أما الأعداء فنحن
كفيلون بهم.