ما يميز ثورة ديسمبر انها لم تكن ثورة خرطومية، و لا ثورة مدن ، لم تكن ثورة نخب و لا ثورة سياسيين ، بل كانت ثورة السودان بكل ما فيه ، النساء و الرجال ، المدن و القرى و المعسكرات ، المواطنين و المغتربين ، النخب و الأميين ، الاغنياء و الفقراء . كانت شيء محير و شيء غريب، هبة لم يسجلها تاريخ السودان منذ الاستقلال و لا اظنه سيسجلها في المستقبل .
أجزم أن هذه الثورة شارك فيها كل سوداني ما عدا أنصار المخلوع و شركاءه من المؤتمر الشعبي و قيادات الاتحادي الديمقراطي جناح الميرغني وبعض المنتفعين ، ثورة جاءت من أجل التغيير الشامل فمن وحي الشعارات المرفوعة من قبل الجماهير التي خرجت إلى الطرقات منذ ديسمبر و حتى أبريل ظهر ان هناك تطلعا لاحداث تغيير حقيقي و جذري ليس في النظام السياسي فقط و إنما ايضا في الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية والخ ، و هذا بالضبط ما يمكن أن يطلق عليه وصف ( ثورة ) .
التغيير الذي يقف عند حد استبدال الطبقة الحاكمة بطبقة حاكمة جديدة لا يمكن أن يسمى ثورة ، فهو تغيير محدود لن يقود الا إلى مسار واحد تتحول فيه الطبقة الجديدة الحاكمة بمرور الزمن إلى طبقة مشابهة للتي غيرتها ، و بالتالي لا يمكن تسمية هذا التغيير بالثورة ، فالثورة في تعريفها الحقيقي الذي يختزنه العقل العام هو التغيير الشامل السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ،التغيير الشامل الذي يفصل بين مرحلة تاريخية واخرى ، التغيير الشامل الذي يستبدل وعيا جمعيا بوعي آخر جديد بالكلية ، التغيير الذي يتجاوز إلى الأبد المحطات القديمة والدائرة المكررة التي يدور فيها الوطن منذ الاستقلال ويخرج إلى درب جديد تماما لا يشبه سابقه ولا يمت له بصله ، درب يصنعه الشعب ويغذيه بالتضحية والصبر والمثابرة .
من ظن أن الدماء التي سألت على التروس كانت دماء تحمي تروسا حجرية في الخرطوم فهو واهم ، بل كانت دماء تحرس مشروعا جديدا للوطن ، تحرس مستقبلا أخضرا تكون فيه الكلمة للشعب لا لفرد او جماعة ، مخطيء من ظن أن الكنداكات خرجن طيلة شهور الثورة غير مباليات بالحر والهجير والتعب والسجون والرصاص والبمبان من أجل إعادة إنتاج الثقافة السودانية السائدة ثقافة الابوية والسيطرة والهيمنة فهو مخطيء ، بل خرجن من أجل أن تسود الثقافة الصحيحة ثقافة العدالة والمساواة والتنافس الحر واختفاء التمييز الطبقي والنوعي والديني والثقافي . اذا لم تكن هذه هي حال الثورة فهي ليست ثورة بل هبة او فورة ( اندروس ) سرعان ما تختفي وتعود الأوضاع إلى ما كانت عليه .
الذي حدث بالأمس في التفاوض والقرار الذي صدر بالاتفاق بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة بمثول المتهمين لدى المحكمة الجنائية لم يصدر لأن المتفاوضين يريدون ذلك وإنما لأن الثورة التي يتفاوضون على قمتها أفرزت واقعا جديدا لن يقبل بأقل من العدالة ولن يقر بأقل من القصاص عن أي جريمة إنسانية ارتكبت في ظل نظام الانقاذ الفاشي .
لا يمكنك أن تمر مرور الكرام على الحركة الهائلة للسودانيين في وسائط التواصل ، لا يمكنك تجاهل النشاط الهائل لجميع السودانيين في الميديا بحثا عن الوطن بحثا عن العدالة بحثا عن طريق الشهداء وتوقا للحرية والمساواة والوطن القوي ، هذا المظهر ليس مظهرا عفويا ولا ترفا ولا صرعة جديدة ، بل هذا هو التغيير، هذه هي حركة التشكل السريعة لثقافة الشعب ، حركة التلاقح والتثاقف بين تيارات الأجيال الجديدة في سعيها لإنجاز ملفات الوطن المعطلة تاريخيا والمدمرة عبر سنين طويلة بفعل الشموليات والانقلابات والأحزاب السياسية المتكلسة والنخب المترددة، هذا النشاط المحموم على الوسائط وعلى الأرض في لجان المقاومة واللجان والنقابات والشوارع ، هذا الانشغال المستمر من الجميع بما يجري في البلاد هو الذي يقود المفاوضات هناك ، هو الذي يقود الحكومة الانتقالية هنا ، هو الذي يزج بالبشير في السجن ، هو الذي يوفر السيولة والخبز والوقود، هو الذي يصنع المستقبل .
خرج هذا الشعب في ديسمبر لا ليسقط الكيزان فقط ، بل ليسقط مرحلة تاريخية مكتملة الفشل ، وليؤسس مرحلة جديدة قابلة للنجاح وقادرة على الصعود بهذا البلد إلى القمة ، الصباح الذي استشهد من أجله كشة و بابكر ورفاقهما أراه كما يرى اليقظ ، صباحا يستحق التضحيات مليء بالحرية والديمقراطية ، صباحا يقوده الشعب ولا احد سواه ، فليؤمن هذا الشعب بنفسه أكثر وليتوحد أكثر وليواصل المشوار فإنه بلا شك قادر على تحقيق كل الآمال، وليتذكر دوما كلما مر به الاحباط والشك والتعب مقولة الشهيد عبدالعظيم ( تعبنا يا صديقي ولكن لا يمكننا الاستلقاء أثناء المعركة ) .
sondy25@gmail.com