الحماس والإندفاع الثوري الذي فرضتهُ الأحداث المتواتِرة و(المتوتِّرة) إبان مفاوضات الإتفاق على شكل ومضمون الفترة الإنتقالية ، من أسوأ تداعياته السلبية (إنجراف) الكثيرين بلا وعي نحو عدم الإنصاف والتشويش على الحقيقة المحضة تجاه ما يجب أن تُبرزه (مشاعرنا الأساسية) تجاه الجيش أو المؤسسة العسكرية السودانية من منطلقات (خالية) من زخم السياسة.
الكثيرون يُطلقون مصطلح (العسكر) وفق إشارات لا تشير إلى الخصائص المهنية للشريحة العسكرية بقدر ما تشير إلى الخصائص (الشخصية) المُتعلِّقة بالقناعات والتوجُّهات والميول ، وما يجب لفت الإنتباه إليه أنه من الخطأ الجسيم (تعميم) الصفات التي تفرضها القواعد المهنية على سائر ما يحوزهُ الشخص من خصائص يستقيها من منابع ثقافية ومعرفية عديدة خارج أسوار النُظُم المهنية.
فليس كل عسكري بالضرورة مُتسلِّط وغير مؤمن بالمنهج الديموقراطي ، وهو أيضاً ليس بالضرورة أن يكون مُناهضاً إستراتيجياً للحكم المدني ، وفي ذات الوقت قد يكون (رائداً) من رُوَّاد (مُناهضة) الإنقلابات العسكرية ومبدأ الوجود العسكري على دفة العمل السياسي ، وعلى مر التاريخ كان لكثيرٍ من العسكريين السودانيين وغير السودانيين صولات وجولات في مجالات عُدة قد تبدو غير (مُتسِقة) مع ما نعرفهُ عن العسكر من صفات (مهنية) ، منهم من كان سنداً ومحوراً فاعلاً في الكثير من أوجُه النضال التي تنشُد الإنعتاق من الأنظمة الشمولية التي سادت في تاريخنا السياسي الحديث ومنهم من مثَّل منارات سامقة لا تخطئها عين في المجالات العلمية والفكرية والثقافية والفنية والإبداعية ، فأثروا الوجدان ومعهُ العقل الجماعي بكل تجرَّد وإقتدار ومسئولية و(مرونه) يحسدهم عليها الكثير من الذين يصفونهم بإمتهان القسوة والتسلط ورفض الآخر.
ما يحدث الآن من تجاذُب وإستقطاب حاد تفرضه سِمات المرحلة ، يعمل على تكوين صورة (نمطية) خصوصاً عند أغلبية الشباب حديثي العهد بما تفرزه الثورات من مآلات سلبية وإيجابية ، تفيد (وهماً) أن الصراع بين الديموقر اطية وشمولية الحُكم هو صورة متوافقة مع فكرة الصراع بين (العسكرية والمدنية) ، هؤلاء يجب أن ينتبهوا إلى أن إنتماء (المواطن) السوداني إلى أييٍ من المؤسسات العسكرية لا يعني بأيي حالٍ إنتفاء (مدنيتهُ) الثقافية والفكرية وربما السياسية ، صحيح أن اللوائح العسكرية قد تمنع إنتماء منسوبيها إلى التنظيمات السياسية ، لكنها لا تمنعهم من تكوين وجهات النظر وتبني الأفكار والتوجهات التي تناسب ميولهم وأهوائهم في مجالات عُدة بما فيها (الإنتماء) للمنهج الديموقراطي ، مثال ذلك إعلان المكوِّن العسكري في مجلس السيادة الحالي في أكثر من منبر إعلامي ومناسبة أن بعضاً من مهامهم في الفترة الإنتقالية إيصال البلاد إلى حُكم مدني (خالص) عبر صناديق الإقتراع.
العسكرية في نهاية الأمر تظل مهنة شأنها شأن المهن الأخرى ، لا تنفي عن صاحبها وهو(خارج إطارها اللائحي) أن يكون مدني (النزعة) وديموقراطي الهوى ، لا لتغريبهُم قسراً عن ضمير الأمة السودانية وآمالها وطموحاتها ومواصفاتها لبناء سودان جديد.