ما لا يريد أن يدركه البجا في ولاية البحر الأحمر بمختلف مكوناتهم، سواء أكانوا ناطقين بالبداويت أو التقراييت في شرق السودان، أن وعيهم العام للشأن السياسي الذي لايزال يتمثل إدراكه عبر منظومات الإدارة الأهلية (وهو ما كان جزء كبير منه بفعل نظام تسييس القبائل الذي أحياه المؤتمر الوطني) إنما هو وعي خطير ومفخخ بطبيعته الذاتية، أي أن التعبير القبلي عن قضايا السياسة مهما بدت قوته هو، في النهاية، يقوم على نظم إدراك أوتوقراطية طبيعتها من طبيعة نظام العلاقة القبلية ذاتها التي تقوم ولاء الدم والأقرب فالأقرب، مما يؤدي في النهاية إلى شقاق بالضرورة نتيجة لتقاطعات حادة بين الخاص والعام.
ولسوء الحظ إن ممارسة ثلاثين عاماً عبر إدارة المؤتمر الوطني لتلك العلاقة المعطوبة في الأداء السياسوي للإدارة الأهلية بدا اليوم هو الخيار الوحيد الذي يظن كثيرون أنه الضامن لجلب حقوقهم.
لابد من القول بدايةً، أن هكذا وعي لا يمكن أن يدرك المتغيرات الكبرى كالثورة مثلاً، ولهذا فهو يظل يشتغل على منطقه النسقي الخاص و المغلق، ولكنه بطبيعة الحال يحتاج إلى شعارات دوغمائية شعبوية لها القدرة على دغدغة المشاعر لضمان ولاء العامة والبسطاء، دون أي التزام ببرنامج واضح، لهذا نرى الإكثار من شعارات عامة تستلف من التاريخ غطاءً لتبرير منطقها السياسيوي (تجد البعض يتحدث كثيراً عن معارك عثمان دقنة في التيب والتماي) فيما أن المنطق السياسي الموضوعي لأي برنامج حزبي أو تنظيمي جاد لابد أن يتحدث بالضرورة عن جدولة عامة لمشكلات الناس الدنيوية وما يتصل بها من خدمات ومصالح عبر برامج مفصلة وقدرة على رؤية الطريق والمصير السياسي الذي يمكنه تحقيق ذلك البرنامج.
وغني عن القول أن طبيعة العمل السياسي العام من هذه الشاكلة يعكس في انهمامه بمصالح الناس استقطاباً للفئات المهمشة التي تغيب عنها تلك الخدمات والمشاريع الأمر الذي سيجعلنا وجهاً لوجه أمام استحقاقات ذات طابع عابر لمسأـلة القبيلة، ولاسيما في المدن الكبرى كمدينة بورتسودان مثلاً.
ما هو معروف وواضح جداً، أن الفقر السياسي الذي ضرب شرق السودان وفتت مكوناته السياسية أصبح اليوم يجد تعبيراً مجوفاً في الإدارات الأهلية والمكونات القبلية التي تنشط بما تيسر لها من أدوات فقيرة وفي غير محلها للاضطلاع بمهام سياسية ليست من شأنها. وهكذا فإن المتاح لذلك التعبير السياسوي الهش سيكون بالضرورة ممارسة مضللة للشعارات والحديث عن قضايا مجردة ولا علاقة لها بواقع البجا، كاللجوء إلى التاريخ والتغني بالأرض لتسخين النزعات الشعبوية في نفوس العوام !
في هذا السياق يمكننا قراءة ما وراء السطور مثلاً، في ذلك المكون الذي سمي بـ(المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة) الذى أخرج نظارتي بني عامر والحباب من مسمى البجا، بما يعكس نزعة أوتوقراطية خطيرة. وكذلك في ربط مفاعيل مخرجات مسار الشرق في منبر جوبا للسلام، بتهديد السلم المجتمعي (وهذه دعوة خطيرة جداً لأن السلم المجتمعي لا يجب أن يكون رهيناً بتغييب أي كيان في منبر جوبا إذ لا يملك أي كيان هذا الحق في التهديد بالسلم المجتمعي حال تغييبه).
ها هو اليوم شيبة ضرار رئيس حزب مؤتمر البجا القومي ينضم إلى قوات الدعم السريع بعد إندراجه في مسار جوبا، دون أن يجد اعتراضاً صريحاً من ذلك المجلس؛ في دالة كاشفة عن الهوية المعطوبة لتلك التمثيلات القبلية البسيطة حين تخوض في شأن معقد كشأن السياسة فتنكشف تناقضاتها سريعاً.
هذا المسار السياسي الخاطئ في شرق السودان ستنجم عنه تداعيات خطيرة وعلى الحكومة تحمل مسؤولياتها في جعل السلم المجتمعي خطأً احمر.