ثلاثين سنة من عمر الانقاذ كانت الثقافة السائدة لدى طغاتها أن من غرف من أموال العامة ، ومن سرق من أموال الغير ، ومن تجبر وعلا على المساكين ، ليس سارق ولا خائن بل ( تفتيحة ) . تحولت بلادنا بفضل هذه الثقافة الى مستنقع أسن من عدم الضمير ، يتمدد فيه الفساد بلا وازع ولا مدافع ، وتعالى أصحاب المال المسروق في البنيان، وتزوجوا مثنى وثلاث ورباع، وأكبر الناس فيهم هذه ( التفتيحة ) ، وقال كل من مر بقصورهم العالية ( ليت لنا مثل الذي عند هؤلاء ) ، وما دروا ان هؤلاء انما صعدوا على أكتاف الشعب ، وطعموا من لحمه ، وشربوا من دمه ، بعد أن ذبحوا في أعماقهم الواجب والمسؤولية والشرف والضمير .
انعدام الضمير هو السمة التي ميزت عهد الانقاذ ، والضمير لمن لا يعرفه هو قدرة الإنسان على التمييز بين الخطأ والصواب أو بين الحق والباطل . خلطت الانقاذ الباطل بالحق و ( دغمست ) الخطأ في الصواب ، فأشكل على العامة التفريق بين الصاح والغلط ، وتحولت الشخصية السودانية في الكثيرين من الطمأنينة والقناعة والإيثار إلى الجشع والطمع وحب النفس ، وهي أمراض مجتمع لا يداويها الا التغيير في الثقافة المجتمعية ، وليس هناك افضل من الثورة مدخلا لهذا التغيير الثقافي الاجتماعي .
لذلك نسأل بعد الإطاحة بالنظام الفاسد عبر ثورة ديسمبر هل صحت الضمائر وتعافى المجتمع ؟ نظرة واحدة إلى السوق تخبرك بأن الأمر مازال بعيدا جدا عن الحدوث ، مازال الضمير غائبا في كثير من دواوين الدولة وفي المخابز ومحطات الوقود والبقالات وحتى في المواصلات ، وهو ما فاقم من الأزمة الاقتصادية المستفحلة اصلا ، وما دعا لجان المقاومة للنزول إلى المخابز ومحطات الوقود للإشراف بضمير وطني على انسياب الخدمة للمواطنين .
مؤسف جدا ان يستغل مواطن موقعه في مخبز كان او محطة وقود او شرطة او غيره في خيانة الأمة، هؤلاء الجبناء الا يستحون من الأجيال الجديدة التي وقفت أمام الرصاص رفضا لهذا الجشع !! الا يخجلون من الشهداء الذين نزفوا الدماء في هذه الثورة من أجل إحداث التغيير وصحوة الضمير في الأمة؟!!! من أين أتى هؤلاء ؟!!!
ليس مقبولا ان ينظر المجتمع ، كما كان ينظر أيام سلطة المخلوع ، لخائني الأمانة وعديمي الضمير وهم ينسفون أهم مباديء هذه الثورة العظيمة في الإيثار ونكران الذات ، ولا يحرك ساكنا !!! انتهى عهد ( التفتيحات ) وجاء عهد الحق، لا يأخذ أحدا الا ما يستحق ، ولا يغترف شخصا من مال العامة جنيها واحدا الا قدم للمحاكم ونال العقاب الرادع ، كفاكم أيها الشعب الجبار مسكنة حتى صارت ( الغنماية تأكل عشاكم ) ، كفاكم تخاذلا حتى أصبحت المرأة تستنجد في الشارع العام فلا ينجدها أحد ، كفاكم مشيا بجانب ( الحيط ) ، إخرجوا للضوء ، قولوا للاعور أعورا واطعنوا الفيل وليس ظله ، إنما تقدمت الأمم بالوقوف مع الحق والأخذ على يد الفاسدين ، وهو أمر لا تقم به الشرطة فقط بل يقم به المجتمع جميعه رجالا ونساءا، كبارا وصغارا ، واعلموا أن النظام الذي كان يحمي الفاسدين قد هوى ، وطاغيته قد سقط ، وليس في الأرض أعظم من الحق وقول الحق وصحوة الضمير . فإما أن تبنوا ، بالشجاعة ضد الفساد والمفسدين ، وطنا شامخا ، أو سوف تبكون ، كالجبناء ، في الغد على وطن ضاع .
sondy25@gmail.com