لا تندلع الثورات لكي تعيد تطبيق انظمة إقتصادية قديمة ، بل لتطبق نظاما اقتصاديا حديثا يماشي العصر ويستجيب لتطلعات الأجيال الجديدة التي تختلف كليا عن تطلعات الأجيال القديمة . لم يقم الشعب السوداني بالثورة لكي يتبنى ايدولوجيا مهزومة اقتصاديا على مستوى العالم ، لم يقم بالثورة ليسقط نظاما حارب العالم لفكرته الدينية ، و يأتي بنظام جديد يحارب العالم لايدولوجيته الاقتصادية . ثورة ديسمبر عنوانها السلام السياسي والاجتماعي والاقتصادي داخليا وعالميا ، والسلام الاقتصادي ان تطبق الثورة النظام الاقتصادي السائد والمنتصر عالميا ، وأن تكسب صداقة الأقوياء وليس المهزومين .
الاقتصاد العالمي الذي يسود العالم هو الاقتصاد الحر ، وهو يتماشي مع الحرية الفردية التي تنادي بها ثورة ديسمبر ، ومع العدالة الثورية والمساواة في المنافسة ، وهو أسلوب اقتصادي أبرز سماته خروج الدولة من السوق ، ودعم المواطنين للدخول فيه .
في عهد الانقاذ كانت الحكومة هي الكل في الكل ، تملك المال والسوق والقانون ، والمواطنون هم الفقراء والمطحونين . نموذج الدولة القابضة والشعب المسحوق، يجعل الساسة أغنياء ، يحفز الجميع لامتهان السياسة للحصول على الغنائم ، تتعدد فيه الأحزاب السياسية بصورة ملحوظة ، تتكاثر فيه الحركات المسلحة بصورة اميبية ، وتظهر فيه طبقة من السياسيين لا تعرف في السياسة ( الكوع من البوع ) .
نموذج الدولة المسيطرة في عهد الانقاذ ، مركزه اقتصادي ، تحتكر فيه الدولة السوق ، تحتكر الذهب والسكر والبترول والصحة والتعليم والزراعة والصناعة ، تحتكر الاستيراد والتصدير ، تصبح الحكومة اكبر تاجر في السوق ، تبيع وتشتري ، تكنز الحكومة وحزبها الذهب والفضة والقصور ، ويغرق الشعب في الفقر والبطالة . هذا النموذج الفاسد ثارت عليه الجماهير في ديسمبر ، مستهدفة تغيير هذا الوضع ( المايل ) بإنتاج دولة حديثة ، ونظام إقتصادي عادل ، وهذا هو بالضبط الإصلاح الذي ينشط فيه وزير المالية الان .
إصلاحات وزير المالية الاقتصادية تجرد السياسة والسياسيين من المال مستقبلا ، تخرج الدولة من السوق ، تجعلها مجرد منظم وليس تاجر . تجعل الوزير مجرد موظف دولة ليس له من المال شيء ، تماما كما في أمريكا واوربا ، لا يملك الوزير أسطولا من السيارات ولا عشرات العمارات ، كما في عهد الانقاذ .
الإصلاح الاقتصادي يفتح الباب للمواطنين للعمل في السوق، يجبر الدولة على تحويل اموالها للمواطنين لينشئوا الشركات والاعمال الخاصة ويبدعوا ويبتكروا . هذا التحول يقضي على فرص الفساد المالي في الدولة ، يفكك أسس الصراع التاريخي المسلح على السلطة القابضة ، يقلل من امتهان الناس للسياسة، ويحدث تلقائيا الإصلاح السياسي المنشود .
الإصلاح الاقتصادي الذي يقوده وزير المالية يهدد مكاسب الساسة والمنتفعين حولهم ، لذا سيواجهه السياسيون بحرب ضارية ، يدعمهم في ذلك الصحفيين الأرزقية ، وكبار التجار .
هذا هو باختصار سبب الصراع الذي يدور الآن، ليس هناك صراعا حول الفاخر ، كما يحاولون تصويره ، الفاخر هي مجرد ملهاة ، الصراع الحقيقي هو صراع بين الإصلاح الاقتصادي والاقتصاد التقليدي ، صراع بين الحديث والقديم ، بين المستقبل والماضي ، بين الثورة وإعادة إنتاج القديم .
sondy25@gmail.com