كانت ليلة حالكة كالحة تلك التي توفيت فيها أمي في مستشفى دلقو إثر ولادتها، وهي بعد شابة، مليحة، نابضة بالحياة.
لم ينم أي شخص في دلقو ليلتها فقد ظلوا باكين، مفجوعين. ولما حاول الناس ثني خالتنا زكية محمد طه حديثة الولادة عن الهرولة والرضيع بين يديها والمشوار بعيد أصرت تقول:
الموت ال شال زهرة
أنا حأموته!
بهذه الحميمية تجمع الخلق وأنا دون العشرين تتقاذفني الأمواج الباكية من حضن لحضن. في هذا الخضم شقت أختي الصبية فاطمة الصفوف لتحضنني بقوة تبللها الدمعات السكيبة.
ليلتها تقمصت أختي الملائكية دور والدتنا فحنت علينا وخدمتنا حافية. وبعد زواج لم يدم لظرف عارض رفضت نحو عشرة من الخطاب من خيار الرجال وفي كل مرة تردد باستماتة:
لن أترك أخواتي عشان الزواج!
بكل سمو التضحية ربت وعلمت وخرجت كل ناس البيت، وحدها اكتفت بمبادئ القراءة والكتابة رغم ذكائها الساطع ما جعلها بشغف وإرادة تفوق المتعلمات وعيا واستيعابا وإفادة.
كانت فاطمة ذات صفات نادرة، فلم يسمع أحد تلفظها على شخص أو تمشكلها مع أي كان فقد ظلت عفيفة اللسان، طيبة القلب، سامية.
زانتها كذلك صفة عظيمة تتمثل في صلة الأرحام وإعزازها فهي سجل لكل أرحامنا بجهتي الوالدين في عموم المحس .. من دفوفة عطا حمزة في أشو وحنك جنوبا، مرورا بأجدادنا ملوك كوكا، وانتهاء بالعمدة عبد الوهاب والحاج محمد أحمد بدري في واوة، بل تتعداها إلى السكوت ودنقلا بحرص فائق.
كانت فاطمة حاضرة الصلوات في مواقيتها، كثيرة الركوع والسجود، مع دعوات وأذكار راتبة، خاشعة.
كنت أعمل في السعودية في الصحافة والتلفزيون ما مكنني من أداء العمرة لنفسي ولمن يلزمني فضلهم مرات، لكني أحجمت عن الحج حتى بدعوة أحباب يقودون حملات لأدائه مجانا، وفي كل مرة أقول:
فاطمة أحق مني
وسأحج وهي في يمناي
لم تتوقف تضحياتها عند حد إخوتها وأخواتها، بل امتدت لترعى صغارنا .. تحضنهم وتلوليهم وتطعمهم وتسقيهم وتحنو عليهم.
مساء أول من أمس كاتبتني أختي من الخرطوم بشأن وعكة ألمت بها فشددت على ضرورة نقلها لعيادة فورا وفي ظني أنها كبوة حصان وتنطلق.
لأن مرضها أقلقني صحوت فجرا لأتابع ففوجئت بأختي تعزيني.
معقول؟!
أكاد لا أصدق!
بينما كنت متخبطا في ذهول والجوال يقع من يدي الراجفة اتصل بي ابن عمي الحبيب محمد عبدون من البلد يواسيني ويشاطرني.
خرجت من غرفتي الطرفية في الشقة واتجهت لأختي العزيزتين وهما تستعدان للصلاة ففزعتا وهما تقولان في ذعر:
مالك قمت بدري؟
فلم أستطع حبس دمعاتي الغزيرة بطبعي العاطفي وأنا أمهد بمرضها ثم سوء وضعها ثم رحيلها فكان العويل وكان الصياح والصدمة العنيفة.
وما هي إلا لحظات حتى تدفقت التعازي من كل منحنى وواد .. من الداخل والخارج حتى كانت تترادف محادثات متواثبة تواليا.
شكرا على عواطفكم النبيلة أجمعين
حبيبتي أختي وأمي الرفيعة
إن موتك المفاجئ أشبه بقطع النصل الحاد شريانا يتعاظم ألمه بمرور الوقت ولا يخبو.
لقد عشت بيننا ومن أجلنا مثل طيف من الرحمة والإيثار والعلو ومضيت دون تمهل وتريث كسحابة راحلة تسقي الداني والنائي.
حبيبتي القديسة وأستاذتي في الإنسانية
لكم سنفتقدك
كيف سنتردد على البيت الكبير دون أن تحتوينا بسماتك وحنيتك وعاطفتك الجياشة؟
بل كيف سنعيش دونك؟
إن فراقك حبيبتي المثالية، الأثيرة
فوق احتمالي
فوق اصطباري
فوق طاقتي
صعب أن أقول لك:
وداعا
إذن دعيني أقول:.
إلى لقاء .. ربما وشيك
فلا نرتجي وقد هوت نخلة قنديلة أبي الفيحاء من بعدك حضنا دافئا، غيداقا
.. يا وجعي!
المفجوع
القاهرة