كلمة واجبة عن الصناعة الصحافية المحترفة التي ، وللأسف ، غدت مسخا شائها عندنا الإ من فئة مجهرية الحجم ومهددة بالإنقراض من فرط قلتها . فنصف من يدّعون الإنتساب للصحافة الانقاذية يعانون من إعاقات ذهنية ونفسية يلجون ساحاتها بمواهب متعطلة جراء تجمد محصولهم المعرفي في المراحل التعليمية الباكرة. أما من يسطون علي بطاقات الهوية الصحافية ويدلونها بفخر علي صدورهم فغالبهم يمارسها بخيال إبداعي متيبس العروق ، ومن تبقي فهم كتبة عرضحالات يقبلون بالإملاء ليظفروا بالمقسوم . في سنوات دولة الصحابة الاستوائية شهدت بوابات صاحبة الجلالة تقحماً ممن جعلوها أداة إضافية في شنطة الشغل فهي لنهّازي السوانح من المتسلقين تمثل اللوتري المُفضي لعالم النجومية ومعينا علي ممارسة النصب والابتزاز !
الصحافة مهنة متفردة تمزج بين قدسية القاضي ، وتفاني المعلم ، وصبر الباحث ، وورع العابد وبحْلقة جلساء المقاهي وتصيدهم لنوادر الطريق ! مهنة لا تنمو وتزدهر إلا حيث تتوافر الكوابح الأخلاقية المتأهبة للفرملة الفورية ، مهنة الاصل فيها أنها شريفة حتي إذا غرستها في تربة الرزيلة ، أمينة مهما زاغت الألسنة بالزور ، ومحترمة دوما وعصيّة علي الإرتشاء ، وإن تسحّت ولاة الامر عن بكرة أبيهم .
المنتج النهائي في العملية الصحفية يقف شاهدا علي ملكات ومقدرات من صنعه . فالصحفي يكتب بنفسه وينسب ماكتب لنفسه ثم يدفع بما يكتب للناس . فان أستحسنوه ، أسلوبا أو معالجة أوحذقا في الطرح ، قالوا له ولغيره ، وإلاّ فالاحكام الشاقة تنتظره ! محكمة الرأي العام تتشكل عضويتها من بريد القراء في الصحف ، والتغذية المرتدة (feedback) في منصات الاعلام الجديد . هذه العدالة الناجزة لاتفرق مابين رئيس التحرير او مديره أو المحرر المبتدئ ولو إنضم لصالة التحرير عند الظهيرة ونشر مادته في المساء . فإن أحسن بايعه الناس بالثناء ، وإن أخطأ تركوه بلا عاصم من طوفان النقد ! فالصحفي أما أن يكون مهنيا محترفا محترما ، وإما أن يكون الطيب مصطفي إذ لا توجد منطقة وسطي مابين المنزلتين .
في العهد الديموقراطي فإن حاجة الناس للصحافة تزداد إذ لا ديموقراطية بلا رقابة . لذلك فإن عبء صناعة صحافة نفاخر بها يقع علينا جميعا . فالصحافيون مطالبون بالرجوع الي سبورة البداية والتدريب لتطبيق نظريات الاعلام الحديث في تجميع عناصر الخبر وطرائق التثبت منه والتدقيق بشأنه قبل بثه ونشره . وعليهم ركل ما يسمي بصحافة الرأي التي إندلقت محابرها فسوّدت الصفحات بأعمدة وصور المتبطلين الذين لا شاغل لهم سوي الهتاف لهذا او العواء ضد ذاك بثمن مدفوع تكاد تحسب دراهمه بسعة الحلاقيم الفاغرة . نريدها صحافة ذات مصداقية تنشر الاخبار ولا تصنعها ، تملِّك الناس المعلومات لا التحليلات والاراء الواقفة علي الهواء بلا سند معلوماتي ! نريد صحافة تستهدي بذات مناهج البحث العلمي لبلوغ نهاياتها ، فتبدأ تقاريرها بحزمة من الافتراضات وتحشد المعلومات بهمة وشمول ، ثم تختبرها بتأن ودقة لتخرج قصصها متكاملة البنيان وذات مصداقية . نريد صحافة وليس منقولات أو تخريجات الشمار وونسة صيوانات المناسبات .