لطالما شكل وهم الانسان عن ذاته حافزاً كبيراً لتصديق الكثير من تصوراته وآماله لاسيما تلك المتصلة بطريقة اشتغال الايدلوجيا، حيث أن التبشير بالرؤى الايدلوجية لا ينعكس إلا ضمن روح من الحماس تظل باستمرار هي مصدر طاقة التصديق حتى تتكسر أوهام الأيديولوجيا عند مصاديق الواقع وقوانينه الصارمة.
والحقيقة، أن الانسان بطبيعته وميوله الفطرية، هو كائن “تبشيري” بمعنى أن قدرته على تصوير قناعاته والسعي من أجلها عادة ما تستصحب نفَساً تبشيرياً.
وهذا الطبع بطبيعة الحال طبعٌ ضروريٌ لسياق الذات الانسانية، لأن الشغف الضروري والايمان هو ما يمنح الطاقة المولدة للحركة والسعي من أجل تحقيق وتطبيق الأفكار والتصورات بغض النظر عن مصاديقها في الواقع.
هذا يعني أن الحماس للايدلوجيا سيظل متصلاً بالإنسان، مهما تغيرت قناعاته، لكن مما هو ضروري: الانتباه دائماً إلى طبيعة أن تلك الخصلة ” التبشيرية ” في الانسان ستظل تتقنع دائماَ في تعبيراته لا لأن دعاوى الايدلوجيا قد تكذب أو تصدق بقدر ما أن تلك الصفة هي هوية انسانية أصيلة ومحفزة للفعل.
لهذا فإنه مهما وتطورت القدرة البشرية على اخفاء نوازع التبشير فإنها ستتكشف بصورة أو بأخرى في ما تختزنه اللغة من قدرة على محاولة اخفاء ما تقوله الكلمات.
لا يعيش الانسان بمعزل عن “التبشير” بما يؤمن به أياً كان نوع ذلك الايمان، وإذا ما بدا اليوم أن كثيراً من الأيديولوجيات قد انهارت وكذبتها قوانين الواقع الصارمة؛ فإن ثمة ايدولوجيات غيرها تشتغل على ذلك الحيز من هوية الانسان في التبشير بما يؤمن به.
لايزال اليوم هناك من يؤمنون بفكرة الشعبوية التي تلقى رواجاً كبيراً في التعبيرات السياسية في الولايات المتحدة، وبعض دول أوربا، وهي شعبويات ينطلق الحماس لها من موقع تتقاطع فيه أوضاع وأحداث عادة ما تكون النزعة الشعبوية رد فعل عليها وليست فعلاً أصيلاً. بالرغم من أن أهم خصائص الشعبوية أنها خطاب يستهلك الحرية دون أن يتقيد بقواعدها إلى جانب خلو الشعبوية من أي برامج مفصلة ولا تزدهر إلا في الأزمات.
وفيما نرى اليوم تبشيراً بعصر الثورة الرقمية لاسيما في المنطقة العربية، إلا أن هذا التبشير لا يختبر طبيعة الفرق بين تمثيلات وتمثَّلات الثورة الرقمية (تمثَّلاتها في الغرب وتمثيلاتها عندنا في المنطقة العربية). ودون التفكر في المؤشرات التي تبشر لها تلك الثورة في العالم العربي بما يشتغل على العكس. وقل مثل ذلك في الكتاب الرقمي وغيره.
واليوم؛ إذ تفرض الحياة المختلفة للعالم، بفعل ثورة المعلوماتية والاتصال ومفاعيل العولمة، تحديات جديدة فإن خطورة تلك التحديات (في عالم لم يستوعب الحداثة بعد) ستكون أكثر تشويشاً مع تفاعلات الثورة الرقمية وأوهامها كذلك.
ذلك أن ما تكشفت عنه طبيعة الاستقبال للأفكار والمفاهيم والتصورات خلال القرن الماضي في المنطقة العربية، يؤشر بوضوح على أن تلك النزعة التبشيرية جزء أصيل وبجرعات كبيرة في طريقة وعي النخب العربية. ولايزال للأسف نظام التفكير العربي الممزوج بالايدلوجيا يعيد انتاج نفسه في الكثير من التفاعلات والتعبيرات حتى اليوم.
وإذا كان من طبيعة الايدلوجيا، أن تعكس تعبيرات الحماس في العلاقات البينية للجموع (تلك التي تتفاعل خارج وحدات التفكير العقلي بحسب ليو ألتوسير) فإن ذلك الخداع سيكون مستمراً في ظل غياب أي توطين للوعي النقدي ونظم التفكير عبر بنى منهجية في النظام التعليمي العربي.
ستظل الأوهام الصغيرة كبيرة عند التحديق فيها من زوايا ومناظير الايدلوجيا إلى درجات يخشى معها أن تلعب تلك الروح التبشيرية دوراً خطيراً في تزييف الحقائق أو تلجأ إلى تطبيقات عنف وإقصاء في سبيل تعويم قناعة لا تأخذ قوتها إلا من قوة الذي يؤمن بها.
وإذ تعمي الايدلوجيا من طبيعة التفكير النقدي، فإن هناك أيدولوجيات استراتيجية قد يتكشف عقمها في التحولات الكبرى التي تختبر بها البشرية أطوار اً جديدة من أنماط العيش وطبيعة للتواصل تلغي معها اعتبارات كثيرة قد تكون ضرورية للقرن العشرين مثلاً.
أتحدث هنا، على سبيل المثال، عن أي كيفية للتمثل يمكن بها تدبر نظم إدراك لا نعيد بها انتاج تجارب الثورات الكلاسيكية للقرن العشرين؟ فإذا ما فكرنا بنظم إدراك ثورية قديمة منذ القرن العشرين فإن معطيات كثيرة حسمتها ثورة المعلوماتية والاتصالات وعلاقات عالم ما بعد العولمة، قد لا تعين على تفعيل نظم الأدراك القديمة تلك وبالتالي تصبح غريزة ” التبشير” والايدلوجيا الخفية المتصلة بها مصدر إعاقة يكمن في طريقنا باستمرار دون أن نشعر حتى.
لا ينفك الانسان عن نزعته التبشيرية تلك لأنها ميل فطري ــ كما قلنا ــ لكن إذا ما أعمته ترسيمات وقوالب لأحداث كلاسيكية كبرى ما غطت على نظم إدراكه وصرفتها عن التقاط وعي اللحظة التاريخية المصاحبة لثورات كبرى؛ كثورة المعلوماتية والاتصال، فقد تشتغل تلك النزعة التبشيرية في انتاج ايدلوجيا خفية لتعمل بكفاءة من داخل نظم إدراكها القديمة فتعيد انتاج الأخطاء فيما يقع احتمال وقوعها في تلك الأخطاء التاريخية القاتلة خارج دائرة تفكيرها تماماً!
جريدة (عُمان) – مسقط – الخميس 12 مارس/ آذار 2020