التحرير: سبق نشر المقالة في 25 ديسمبر 2019م
أصدر دولة رئيس الوزراء السوداني مؤخراً قراراً بإعفاء الأمين العام الحالي لجهاز تنظيم شؤون العاملين بالخارج (جهاز المغتربين) السفير عصام عوض متولي من منصبه.
ولعل معظم المغتربين والمراقبين ذوي الصلة يتوقون لمعرفة أول بديل
في هذا المنصب الشفاف لفترة ما بعد ثورة 19ديسمبر – 11 أبريل 2019 التاريخية.
والحقيقة أن هذا المرفق لا يفتقر لقائد ثوري الصفات كي يرد
للمغتربين والدولة على السواء بعض حقوقهم ولكنه يحتاج بدلا عن ذلك لآلية نافذة
ومعول فعال يستخدمه القائد الجديد أيا كانت مواصفاته ليطرق به الأبواب التي ظلت
مغلقة في وجه سابقيه الذين ظلوا واحدا تلو الآخر يحفرون في الصخر ويحرثون في البحر
ليس لقلة الإدراك ولكن لقلة الحيلة.
لقد حقق كثير من قادة الجهاز السابقين تقدما سلحفائيا تجاه تحقيق
أحلام المغتربين المشروعة وكان يمكنهم تحقيق انفراجات أكبر في عديد من المجالات
تسرع بعودة المغترب من جهة وتتاح الفرصة لغيره من جهة أخرى بدل أن يدمغ المغترب
السوداني بأنه هو الأطول غيابا عن الوطن وما يترتب على ذلك من تربية أجيال
المستقبل خارج رحم الثقافة السودانية.
تلك السلحفائية ، ومردها يعود لسياسات الدولة تجاه المغتربين ، هي
المسؤولة عن النتائج السالبة لمثل هذا الاغتراب الأعوج بالمقارنة مع نظرائه في
الدول المصدرة للعمالة الماهرة لدول الاحتياج.
أول سلبيات تلك السياسات هي عدم سيطرة الدولة على العناصر المهاجرة
حيث لا تملك الدولة اتفاقيات ومذكرات تفاهم ملزمة مع الدول المضيفة للمغتربين
والمهاجرين السودانيين كما أنه ليس لديها دراسات حول حجم ونوعية عمالتها الماهرة
بالداخل والخارج وبالتالي ليس لديها معلومات حول عدد الذين غادروا للعمل وأين
ذهبوا وكيف حالهم هناك. إذ إن حال دولتنا اليوم كحال رب أسرة في أقصى أطراف البلاد
في الزمن الغابر ركب ابنه القطار أو اللوري متوكلا على الله الى إحدى مدن الساحة
المحلية آنذاك وعندما أتاه خبر شبه مؤكد بأن ولده الكبير (اشتغل) أي حصل على وظيفة
بالمهجر المحلي، ظل يلاحقه (بالمراسيل) بأن يبعث له بصفة راتبة مبلغا يصلح به حال
الأسرة وهو لا يعلم من أمر ظروفه في المدينة شيئا ولكن الإبن البار ظل يستجيب بقدر
الإمكان لمساعدة الأسرة، الأمر الذي يحفز أنداده في القرية للهجرة الى المدينة.
والأدهى وأمر هو أنه عندما تضخم سيناريو الهجرة السودانية لكسب
العيش من الوطن الى كافة الجغرافيا حتى إسرائيل، اتبعت دولتنا ذات الطريق البلدي
بملاحقة المغتربين بالجبايات متعددة الأغراض دون أن تمنحهم حقوقهم في التعليم
المجاني والأراضي السكنية والزراعية والحرفية الميسرة والتراخيص التجارية المناسبة
الخ… وظلت جمعياتهم وكياناتهم الاقليمية تلاحقهم لدعم المستشفى والشفخانة والنادي
والجامع والمدرسة ،،، وما فتئ أهل المغترب وعشيرته وأصدقاؤه يستظلون بمظلة
الجلاليب والعمم والملافح والبناطلين والثياب النسائية ويستعينون بمستلزمات
الولادة والختان والزواج و(كشف فراش البكا) أما اولادهم من أصلابهم فحدث ولا حرج.
ليس الوقت الآن وقت بكاء على الأطلال كما أنه ليس وقت (شيل الحال) .
آن الأوان ليعود كثير من المغتربين باختيارهم كما هاجروا بطوعهم لا
أن تعود أسرهم قسرا تحت وطأة اجراءات مالية أو نظامية هي من صميم حق الدول المضيفة
ثم يعودون في أعقاب ذلك ليس في جعبتهم سوى ذكريات العطاء.
آن الأوان أن يقترح مدير دفة شئون المغتربين تخصيص منطقة المدرعات
و سباق الخيل و المطار الحالي لإقامة ناطحات المغتربين الذين ليس لهم قطع أراض أو
منازل خاصة بالسودان.
آن الأوان أن يتم استيعاب العائدين في مشاريع جماعية وفردية مدروسة
وأبنائهم وبناتهم في المدارس والمعاهد والجامعات بنفس شروط الالتحاق أسوة ببني
وطنهم.
واختصاراً، آن الأوان لدراسة فاتورة الاغتراب بعناية فائقة حتى لا
نفاجأ بظاهرة مصحة العائدين من الغربة مثلما فوجئنا بظاهرة أطفال المايقوما التي
تمت مكافحتها جزئيا بحقنها بمصل الدعم السريع.
فأمين عام جهاز المغتربين الجديد ينبغي أن تكون له مستشارية علمية
تسبر أغوار مسببات الهجرة ومراحل تطورها ومتغيرات مطامح المغتربين بالاضافة لراهن
أوضاعهم في دول المهاجر والحواضن الكبرى وتضع لها حلولا جراحية بمباضع دولة المصدر.
ويتعين أن يتاح لذاك الأمين العام فرصة طرح تلك الرؤى على جهات حكومية تشارك
المغتربين مآسيهم مثلما كانوا يشاركون أمتهم أتراحها وحلحلة مشاكلها بالانابة عن
الدولة في كثير من الأحيان. بل الأهم من ذلك أن يتم ترفيع الأمين العام الى درجة
وزير وإدارته الى مستوى وزارة أو وزير دولة وإدارته تابعة لوزارة الخارجية أو أي
من الصيغ المجربة في الدول ذات العمالة المهاجرة مثل الهند وإثيوبيا والفلبين.
المسألة لا تختص فقط بمحاولة استرداد جزء من حقوق المغتربين
الضائعة بل أيضا بمحاولة استرداد الدولة حقوقها في عائدات المغتربين ليست فقط
المالية بل أيضا العناصرية، فكم من عالم أو نابغ سوداني امتدت به الغربة ويحلم
بخدمة وطنه واستنشاق عبق الماضي الجميل ولكن لا أحد يضمن له نصف مميزات الحياة
التي يعيشها في الخارج.
نريد لوزير شؤون المغتربين أن يطرح مشروع قراره من داخل مجلس
الوزراء وينتزع آلية التطبيق تدريجيا لصالح المغترب والدولة بإقناع ومساندة كافة
الأجهزة ذات الصلة لا أن يستجدي مدير مصلحة الضرائب أو الأراضي أو الزكاة
(المزعومة) لتحديد أمر هو من صميم اختصاصاته.
وزير شؤون المغتربين ليس مجرد مغترب سابق يجيد فبركة خلطة مصالح الدولة بثاني أوكسيد المغترب ولكنه مهندس تحويل هجرة وعودة العقول والأيدي المدربة الى ثقافة سيادية مبرمجة تعود بالنفع المتبادل للمغترب وبلده من جهة والطرف المضيف من جهة أخرى.