الوفد البجاوي باسم “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” الذي زار الخرطوم، منذ أيام، وعقد لقاءات كثيرة مع القوى السياسية، على رأسها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في دار حزب المؤتمر السوداني، بحضور إبراهيم الشيخ وغياب عمر الدقير الذي كان في مدينة بورتسودان، بوصفه مجلساً أعلى لنظارات وعموديات البجا بشرقي السودان؛ من خلال تأمل طبيعة الخطاب الذي كرسه الوفد في لقاءاته عبر مقاطع الفيديو المبذولة في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يغيب عن بال أي مراقب نزيه وملم بطبيعة الأوضاع السياسية والقبلية للبجا في شرقي السودان، أن الخطاب الذي قدمه الوفد ينطوي على تهديد للسلم الأهلي وعلى مغالطات كبيرة، سواءً لجهة الشكل الذي عبر به الوفد عن نفسه، أو لجهة الطريقة التي خاطب بها القوى السياسية في المركز، وعلى رأسها قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي للأسف قوى في غالبيتها لا تدرك تعقيدات الأوضاع في شرقي السودان.
فالوفد زار الخرطوم أصلاً لشرح أهداف سياسية، مع أنه وفد لمكونات قبلية، تتصل برفض اتفاق الشرق الذي جرى توقيعه بين الحكومة الانتقالية وبعض حركات شرقي السودان (من منبر الجبهة الثورية) الشهر الماضي، لكن طريقة رفض الوفد التي عبر عنها تجاوزت منطق الرفض السياسي، إلى المزايدة على حقوق مواطنين أصليين من شرقي السودان ومن مكون البجا، بالطعن في مواطَنَتِهِم.
فور مشاهدتي الفيديوهات في فيسبوك، اتصلت هاتفياً بعمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، وتحدثنا حول خطورة أن تتبنى أي جهة سياسية أو غير سياسية في البلاد شرقي السودان مقايضةً للسلم الأهلي بمخرجات اتفاق شرق السودان، فوافقني تماماً على خطورة ذلك وعلى أن إدارة الخلاف في السياسة لا بد أن تكون بأدوات السياسة.

وفد نظارات البجا… ورسالة إلى إبراهيم الشيخ
محمد جميل أحمد
الوفد البجاوي باسم “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” الذي زار الخرطوم، منذ أيام، وعقد لقاءات كثيرة مع القوى السياسية، على رأسها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير في دار حزب المؤتمر السوداني، بحضور إبراهيم الشيخ وغياب عمر الدقير الذي كان في مدينة بورتسودان، بوصفه مجلساً أعلى لنظارات وعموديات البجا بشرقي السودان؛ من خلال تأمل طبيعة الخطاب الذي كرسه الوفد في لقاءاته عبر مقاطع الفيديو المبذولة في وسائل التواصل الاجتماعي، لا يغيب عن بال أي مراقب نزيه وملم بطبيعة الأوضاع السياسية والقبلية للبجا في شرقي السودان، أن الخطاب الذي قدمه الوفد ينطوي على تهديد للسلم الأهلي وعلى مغالطات كبيرة، سواءً لجهة الشكل الذي عبر به الوفد عن نفسه، أو لجهة الطريقة التي خاطب بها القوى السياسية في المركز، وعلى رأسها قوى إعلان الحرية والتغيير، وهي للأسف قوى في غالبيتها لا تدرك تعقيدات الأوضاع في شرقي السودان.
فالوفد زار الخرطوم أصلاً لشرح أهداف سياسية، مع أنه وفد لمكونات قبلية، تتصل برفض اتفاق الشرق الذي جرى توقيعه بين الحكومة الانتقالية وبعض حركات شرقي السودان (من منبر الجبهة الثورية) الشهر الماضي، لكن طريقة رفض الوفد التي عبر عنها تجاوزت منطق الرفض السياسي، إلى المزايدة على حقوق مواطنين أصليين من شرقي السودان ومن مكون البجا، بالطعن في مواطَنَتِهِم.
فور مشاهدتي الفيديوهات في فيسبوك، اتصلت هاتفياً بعمر الدقير، رئيس حزب المؤتمر السوداني، وتحدثنا حول خطورة أن تتبنى أي جهة سياسية أو غير سياسية في البلاد شرقي السودان مقايضةً للسلم الأهلي بمخرجات اتفاق شرق السودان، فوافقني تماماً على خطورة ذلك وعلى أن إدارة الخلاف في السياسة لا بد أن تكون بأدوات السياسة.
لكن ما نستغرب له، بل وندين به أمثال إبراهيم الشيخ، الناطق الرسمي باسم المجلس المركزي لقوى إعلان الحرية والتغيير، وبعض قيادات قوى الحرية والتغيير، التي استمعت لوفد “مجلس نظارات قبائل البجا” ليس عدم إلمامهم بطبيعة الأوضاع بشرقي السودان، بل هو عدم إنكارهم للطريقة الإقصائية في خطاب الوفد التي طُرحت بها القضايا السياسية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: طرح وفد “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” نفسه كممثل حصري لقبائل البجا في شرقي السودان، وهذا بطبيعة الحال ليس صحيحاً، لأن هناك مكوناً بجاوياً آخر وأصيلاً في الشرق، هو قبائل بنو عامر والحباب، تمت مصادرة حقها في مشروعية التمثيل ضمن مجلس قبائل نظارات البجا!
وخطورة هذا الأمر ليست شكلية بطبيعة الحال، بل تتصل بإرادة إهدار حقوقهم في المواطنة والوجود أيضاً، وهذا أخطر ما في الأمر، بتغييب أحقية أفراد ذلك المكون من ممارسة حقوقهم السياسية كأفراد، وذلك على خلفية الشكوى من قضية حقيقية تتصل بإشكالات هجرة حدثت جراء سنوات اللجوء لمواطنين من دولة إرتريا المتاخمة حدودياً لشرق السودان، قبل استقلالها وبعده، وفقط بحجة أن لبني عامر والحباب امتداداً قبلياً مشتركاً مع دولة “إرتريا”! فهل يا ترى من حق وفد “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” أن يصادر حقوق الآخرين بنفي تمثيلهم وبخلط قضيتهم بقضية اللاجئين الإرتيريين؟ لا سيما أن إبراهيم الشيخ يعرف تماماً ذلك المكون، أي بنو عامر والحباب، الذي جرى إقصاؤه من وفد التمثيل، كما ذكر ذلك في رسالته التي كتبها يوم الجمعة الماضي لينفي فيها اتهامات له من بعض الناشطين بالتحيز القبلي لمكون من دون آخر في شرقي السودان، فيما هو يمثل حزباً سياسياً يدعو إلى المواطنة والديمقراطية.
ثانياً، ذكر بعض أعضاء الوفد في لقائهم مع قوى الحرية والتغيير وأمام الملأ أن مدينة كسلا (شرق) لا تحكم من طرف البجا، وقال شخص متحدث باسم الوفد إن باطن الأرض خير لهم من ظاهرها من أن يحكمهم لاجئ، في إشارة إلى والي كسلا اللواء محمود همد الذي هو من مكون بني عامر، الذين هم في عُرف هذا الوفد ليسوا من البجا وليست لهم أرض في كسلا، كما قالوا ذلك صراحةً في الجلسة، فهل يمكن تمرير مثل هذا الكلام الذي يطعن في مواطنة مواطنين أصليين أمام مجلس مركزي يمثل قوى الحرية والتغيير التي هي قائدة الثورة وحاضنة حكومتها السياسية؟
وللأسف ربما لذلك الفهم الذي يدرج مكون “بني عامر والحباب” في خانة “الأجانب” تجنب الوفد استصحاب ناظر الحباب ووكيل ناظر بني عامر معهم إلى الخرطوم، مع أنهما كانا داعمين لوفد الإدارة الأهلية لشرق السودان في رفضهم لمسار جوبا!
كما أن هذا الوفد ذكر بوضوح أنه سيقايض اتفاقية جوبا، التي جرى بموجبها اتفاق بين القوى الممثلة لمسار الشرق والحكومة السودانية، بتهديد السلم الأهلي في حال تطبيق بنود تلك الاتفاقية على أرض الواقع أمام قوى الحرية والتغيير في ذلك الاجتماع، ومر الأمر عادياً كما لو أن السلم الأهلي، الذي هو حق لجميع مواطني شرقي السودان وليس في وسع أي مكون ولا يحق لأي مكون أن يتخذ منه ورقة ضغط من أجل موقف سياسي، ليس مما يعني قوى الحرية والتغيير في شرقي السودان حين يتم التعريض بتفجيره في مثل هذه الاجتماعات.
والسؤال الذي يفرض نفسه أيضاً، كيف يتم هذا التغييب والإلغاء لمكون سوداني بجاوي أصيل أمام قوى الحرية والتغيير ويتم الحديث عن التهديد بالسلم الأهلي كرد فعل على تطبيق اتفاق جوبا؟ الأمر هنا يشبه تماماً أخذ القانون باليد، فيما الطريق الأسلم هو العمل السياسي السلمي من أجل نيل الحقوق، وحتى الآن لحسن الحظ لا يزال حراك المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات هو حراك سلمي وإن كان عبر جسم غير سياسي، فهو بطبيعة الحال في حدود السلم، لكن يظل مجرد التلويح بتهديد ورقة السلم الأهلي وربطه بمواقف سياسية من الاتفاقية أمراً ينبغي أن يكون خطاً أحمر ومرفوضاً من كافة أحزاب قوى الحرية والتغيير.
ثالثا، يستخدم الوفد في خطابه لهجة تهديد بالدفاع عن أرض البجا في وجه التغيير الديموغرافي، في إشارة إلى أن هناك عمليات إحلال تتم في شرق السودان عبر توطين لاجئين إرتريين من قبل حركة الجهاد الإرتيري وحزب الخلاص على حسابهم كبجا، مستلهمين أمجاداً غابرة في معارك البجا ضد الاستعمار البريطاني من خلال لهجة حربية، كما يتحدثون أحياناً بأن لمكون بني عامر والحباب جيب صغير على حدود شرقي السودان لا يخولهم ذلك الاستحقاق الذي حصلوا عليه في اتفاق جوبا.
قد يستغرب المراقب تلك النعوت التي يعرَّف بها وفدُ نظارات البجا مواطنين آخرين من البجا يتعمد إقصاءهم، فيصفهم كسكان حدود أو حتى أقليات أو جاليات، وهو بكل تأكيد سلوك مرفوض وعلى كل مواطن سوداني يعيش سيداً في الجغرافيا السياسية للسودان بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) العظيمة أن يرفضه.
وإذا كانت تلك هي المقاربة الوحيدة في التعبير عن قضايا الحقوق، ناهيك بالجسم غير السياسي الذي يطرحها، فإن من الأهمية بمكان أن تنتبه قوى الثورة وقوى الحرية والتغيير إلى تلك اللغة التي بدا فيها خطاب الوفد تهديداً ووعيداً حيال مكون آخر بنفس إقصائي. وبطبيعة الحال ليس بمستغربٍ أن يكون ضمن ذلك الوفد القبائلي بعض من كانوا يتقلدون مناصب عامة في ظل نظام البشير.
ثم حين يصف هذا الوفد جماعة من المواطنين السودانيين بأن لهم جيباً صغيراً متاخماً للحدود مع إريتريا (أراضي بني عامر والحباب في جنوبي طوكر أكبر من مجرد جيب حدودي)، ليتوهم مصادرةً لحقهم في حقوق المواطنة المتكافئة، حين تكلم بها الوفد عن حيازة تاريخية لأرض البجا، هل يظن أن تلك الطريقة ستعطي وفد “المجلس الأعلى لنظارات البجا” الحق في منع أي مواطن سوداني من الحصول على مسؤولية سياسية أو وظيفة خدمية في مدينة مثل بورتسودان؟ وهل هذا أصلاً يليق بمبدأ المواطنة الذي هو وحده الحق الدستوري الذي يعرف سكان الحدود السياسية للسودان؟
لقد بدا الأمر واضحاً جداً ومكشوفاً تماماً لكل مراقب حصيف، فليس هناك في شرقي السودان قبيلة تتعدى على الحدود القبلية لأخرى في مناطقها النائية، وإنما الهدف بوضوح هو مزايدة مكشوفة من أجل مصادرة حقوق طبيعية لمواطنين سودانيين آخرين في شرقي البلاد في وظائف يكفلها لهم حق المواطنة!
بطبيعة الحال هناك مشكلة ديمغرافية في شرقي السودان، من دون شك يقوم جزء منها على خلفية اللجوء، لكن قضية لجوء الإرتيريين في شرقي السودان كانت منذ سنوات طويلة ولم تأتِ مع الثورة، كما أنها قضية تقع ضمن الإجراءات السيادية لحكومة السودان، وفي إطار ترتيباتها لملف اللاجئين والمعالجات المتصلة به وليس ورقة للمزايدة السياسية على حقوق مواطنين أصليين في الشرق يجري تمريرها فقط لإرادة تهميش ذلك المكون وتجاوزه بحجة قضية اللاجئين، ومن ثم نفي استحقاقه الوطني والوجودي في السودان؟! لكل ذلك، على قوى الحرية والتغيير أن تدرك تماماً أن تهميشاً كهذا لمكون بجاوي أصيل “بنو عامر والحباب” سيعيد إنتاج المشكلات، ولن يؤدي إلى بر الأمان مهما توهم وفد المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات.
إلى جانب ذلك، تحدث الوفد عن الحيازات والملكيات القبلية لأراضي البجا في شرقي السودان (كانوا قد طالبوا بإعادة ترسيمها)، بما يوحي للحكومة المركزية في الخرطوم كما لو أن هناك من سيضع اليد على أراضي البجا. والحقيقة أن الأمر يتصل بالمكاسب السياسية والمحاصصة القبلية في بورتسودان، التي هي مدينة قومية لكل مواطني السودان وليست اليوم حيازة لقبيلة بعينها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل مكون بني عامر والحباب يعيشون كأجانب في مملكة بجاوية من القرون الوسطى، أم يعيشون في وطنهم وأرضهم في السودان بحسب الهوية التي يمنحها لهم وجودهم في داخل الحدود السودانية كمواطنين أصليين.
مكون بني عامر والحباب هم الذين وقعت عليهم وعلى أرضهم (جنوب طوكر) معارك طاحنة، لا جمل لهم فيها ولا ناقة، بين حكومة البشير والمعارضة في التسعينيات وراح ضحيتها كثير من المدنيين على هامش تلك الحرب في العام 1997م.
ولا تزال الألغام التي زُرعت فيها تتفجر حتى اليوم في وجه المواطنين الأبرياء (انفجر لغم قبل أسبوع وأدوى بحياة طفل وأصاب نسوة حوامل) الذين هُجّروا بعد الحرب إلى مدينة بورتسودان من دون أن يتم تعويضهم أو تتم إعادة توطينهم، ولا يزالون يعيشون في الأحياء العشوائية وحزام الفقر، وبيئاتهم في جنوب طوكر أشبه ببدايات الخليقة!
ثم أليس بنو عامر والحباب النوبة هم الذين كانوا معاً، حائط الصد الذي ترَّسوه بأجسادهم ليستقر السلم الأهلي ويتم تفويت الفرصة على العنصريين والمتآمرين في المدينة من تأجيج وإدامة الاقتتال الذي جرى بينهم على ثلاث موجات خلال 6 أشهر في بورتسودان؟
ثم أليس بنو عامر والحباب والنوبة؛ هم من كانوا أكثر الذين تم حرق بيوتهم وتدمير ممتلكاتهم عبر عصابات “النقرز” على سمع وبصر اللجنة الأمنية؟ لقد كانت تلك الأجساد البريئة الطاهرة هي الجسر الذي عبر عليه السلم الأهلي إلى بورتسودان من دون أن ينفجر وضمن للثورة أن تستقر بسلام في منطقة جيوستراتيجية كان يمكن أن تفجر السودان كله لو انفجرت لا سمح الله، كما حذر من ذلك زميلنا الكاتب والمناضل الحاج وراق؟
يهمنا جميعاً في الشرق بكل مكوناتنا، أن تكون حلول مشكلاته بين قواه السياسية البينية عبر الحوار أولاً، وأن لا تتم مقايضة اتفاق سلام الشرق بتفجير السلم الأهلي، مهما بدا الأمر، كما يجب علينا الإيمان المطلق بأن أي عمل سياسي لن ينجح ما لم تكن فيه شراكة مستقبلية بين مكونات الشرق كلها وعلى رأسها البجا.
لهذا، شخصياً أدعو إلى التعاطي مع بنيات حزبية جديدة وشابة ذات علاقة بالثورة لقيادة عمل سياسي جديد في شرقي السودان، ولينخرط أبناء البجا فيها جميعاً، مثل حزب المؤتمر السوداني، والتجمع الاتحادي المعارض، وغيرهما.
ومن المهم أن تكون النظارات الأهلية للبجا، التي هي محل تقديرنا من حيث المبدأ، راعيةً للسلم لا داعية للسياسة والحرب، فنظام تسييس القبائل المقيت كان آلة الإنقاذ التي ظلت مستمرةً معنا حتى الآن منذ ثلاثين سنة، وأصبح شرقي السودان بموجب ذلك في فراغ سياسي خطير.
اندبندنت عربية