منذ ظهور فيروس كورونا في الصين خلال شهر نوفمبر الماضي 2019م ، تفاقمت الاصابات بهذا الفيروس إلى الدرجة التي أصبح عليها اليوم قادراً على جعل العالم كله يختبر هشاشة حقيقية ظن كثيرون أن الانسان الحديث تجاوزها منذ مئات السنين! لقد بدا العالم فجأة هشاً ومعزولاً في مشاهد للمدن بدت كما لو أنها مشاهد لأفلام سينما الرعب، لكنها هذه المرة جزء من الحقيقة الصادمة.
العجز الانساني هو أول ما يتذكره المتأمل في هذه الأيام وهو يشاهد العالم كله يلزم الجميع فيه بيوتهم، يتركون أعمالهم ومصالحهم ويتهافتون على جمع الأغذية من المتاجر تحسباً لجلوس منزلي قد يطول، أو أقله لمدى أسبوعين.
في التذكير بالهشاشة شيء من الطبيعة البشرية بل شيء من اليقين يجعل في نفس صاحبه شعوراً بالعدمية واللاجدوى. ذلك هو الشعور الذي يستشعره الجميع من جراء فعل هذا الفيروس الخطير.
لقد كانت هجمة فيروس كرونا، خصوصاً في أوربا لحظة تقاطع رهيب بين إغراء النزعة المادية الطاغية، وبين مسؤولية الدولة في ظاهر حدود القانون وليس حدود الضمير بالضرورة.
فما كشفته طبيعة الاصابات التي بدأت في إيطاليا ثم انتشرت إلى اسبانيا وظهرت فجأة بأعداد متقاربة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، هو تلك الهوية المادية لسلطة الرأسمالية الجشعة في مواجهات استحقاقات أخلاقية تقتضيها شفافية المعرفة بالحدود الكارثية التي يمكن أن تنجم من جراء هذا الفيروس الخطير.
تعجز أوربا اليوم في مواجهة هذا الفيروس الذي كان يمكن أن تكون أضراره أخف من ذلك بكثير لو تمت الاستجابة إلى نداء الضمير والقانون في اللحظة المناسبة.
لقد بدا الأمر كما لو أن قادة أوربا يخفون شيئاً رهيباً (كما تجلى ذلك واضحاً في تلميحات رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وكذلك خطاب رئيس الوزراء الفرنسي ماكرون) في تذكيرهم بأن القادم أخطر بكثير مما حدث؟
إن خطورة هذا الفيروس وسرعة انتشاره الرهيبة تحفز بالضرورة إلى التفكير في حالة جماعية لإرادة النجاة. ويبدو أنه لأول مرة يتضامن البشر في مشاركة وجدانية واحدة بعد سنوات طويلة مرت عليهم دون أن يتذكروا هذا الشعور حتى!
العالم اليوم بدا عالم ضرورات وضعته تلك الضرورة في حفظ الحياة إلى التضحية بأشياء كثيرة تفادياً للتهديد الأكبر الذي يتوعد به هذا الفيروس بني البشر.
هكذا سيبدو الاقتصاد والطاقة والتصنيع والبورصات وكل الصناعات الثقيلة للبشر أمراً ثانوياً وفائضاً عن الحاجة إزاء التهديد الذي أعاد به فيروس كورونا ذاكرة قديمة ومظلمة للبشر.
ففي ذروة العولمة التي بدا فيها العالم مكشوفاً ومفتوحاً للبشر من خلال أكبر فرصة تواصلية سنحت لهم في التاريخ، فجأة بدا فيروس كورونا كما لو أنه يذكرهم بتلك الهشاشة التي عاشوها في أزمنة ما قبل الحداثة.
صحيح أنه في قدرة البشر التغلب على هذا الوباء الذي ذكرهم بماضيهم البعيد، لكن من الأهمية بمكان أن يكون ما بعد هذا الحدث العظيم ليس كما قبله.
وبالرغم من أن المجلة العلمية الأمريكية الشهيرة (نيتشر) نشرت مؤخراً دراسة شارك فيها باحثون من جامعات أدنبرة وكولومبيا وسيدني وتولين، لم تجد أي دليل على أن الفيروس تم صنعه في مختبر أو هندسته بأي شكل آخر، كما أشارت بعض الشائعات، إلا أن هناك عودة محتملة لهذا الفيروس حتى لو أمكن القضاء عليه. ما نشرته تقارير بريطانية حول توقعات مخيفة لضحايا هذا الفيروس يدل دلالةً واضحةً على أنه قد تكون هناك حاجة لفترة أطول من فترات الحجر الصحي تتجاوز الأسبوعين إلى أكثر من ذلك.
الخوف من انهيار الأنظمة الصحية من ناحية، واحتمالات توقف الانتاج العام ولاسيما في مجال المواد الغذائية فيما لو تجاوزت فترات الحجر الصحي ما هو محدد لها بسبب تفاقم الفيروس لا سمح الله سيضع العالم أمام كابوس حقيقي لاختبار الهشاشة.
ربما يحتاج البشر اليوم لإعادة النظر في رؤيتهم لأنفسهم وللعالم، بعد أن فاجأهم هذا الوباء بكابوس وضع مستقبلهم أمام محنة عسيرة وطريق واحد للتضامن مع بعضهم البعض.
إن فيروس كرونا أعاد اعتباراً أوليا لفكرة المكان. فليس المكان اليوم هو كما كان الأمس، فما يوحد هوية المكان في العالم اليوم هو هوية الوباء فقط.
لقد سكن العالم حقاً سكوناً سيثير أسئلة كثيرة؛ دينية وفلسفية ومعرفية للنظر حول الكثير من سرديات الحداثة المادية التي كان انعكاسها المتوحش في الجشع الرأسمالي وهوس التسوق شرطاً أنانياً لجعل عالم الفقراء أكثر فقراً.
وبين الاتهامات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة على خلفية انتشار هذا الفيروس، قد لا يكون الوقت مناسباً لتبادل تلك الاتهامات بقدر ما الأمر يتصل بالتنافس الشريف على ايجاد لقاح لهذا الفيروس كي يتوقف الموت الذي يحصد البشر هذه الأيام.
عالم ما بعد كورونا ليس كما قبله. ثمة أشياء ستتغير في ذلك العالم. ويبدو أن كورونا سيبدو بمثابة تذكير لمعنى وضرورة أن يكون البشر إنسانيين قبل كل شيء.
جريدة عُمان – مسقط – الخميس 19 مارس 2020م