ضاعت عني لغة العرب إيجازاً وإسهاباً، وانشدهت أمام وقع جلل لم يتسن لي مجرد كلمة واحدة، بينما تمددت دموعا ًوحزناً نبيلاً بعد مهاتفة أخي محمد طاهر البارحة ناقلاً لي نبأ وفاة شقيقه سماح بمدينة الدمام.
داهمني حضورك يا سماح كما تعودت خلسة بدون أن تنبت همسة فكيف نستسلم بذات الصمت لاحتجابك وابتعادك، كيفما وانت سيدي تستقي حضورك من ضجة نبع أزلي ويسوقك اخاءك جهر قضاء منقض كمهرجان ألق المحيا مستتم الجمال ينسكب منك الطيب، وتتدلى من رفقتك الأحلام والورود في زفة رياحين وياسمين، وضَجَّة ضوء من اللآلئ يومض ليلنا الطويل حتما بدونك.
سماح محمد أحمد السمح خلقة وأخلاقاً، المتمر بالتواضع، الخير السعي، الذكي السجال، أهكذا ذهبت بدواخلك الماهلة ومسارك القويم، وهدوئك المقيم، ربما الصحيح أنك الهدوء الذي أكمله الرحمن إنسان متمر خلقا منتصباً كما النخيل كم التجانا لك ثمراً ومتكأ ظليلاً من نهارات الأيام وعثرات الطريق فيما بين أم سويقو وقضبان السكة حديد ودروبات القسم الأول وفوال الطائف وسينما الخواجة ومساءات الفريق تحت مطر الخريف، وشتاءات الأيام، وعشق محمد وردي، ربما أخذتك عنا حينا الجامعة البيروتية في الاسكندرية، والتأمنا من جديد في الوطن والمملكة.
تداعت أمامي ما بين ضجة الخبر وبغتة المفاجأة كل مواقفك ومساراتك وأنت تمهرها صبراً وإيمانا بأدب الزاهد وعشق الصوفي، وخلق ود البلد الساخر اللذيذ، دافئاً كصيوف الاستواء، منتصبا ًكاشجار الجميز المالية شارع النيل، والنيم المشرور في حيشان البيوت. تسوقنا بمذاقك الساحر العجيب ليتهمك كل من عرفك عن كثب صداقة ومودة كعادتك شهي المذاق فواح العطر تسيل ترياقاً معالجاً لندوب القلوب وعثرات الزمان.
عرفته عن قرب عن طريق شقيقه طاهر وتجاوزتهما لوالدهما ووالدتهما وإخوانهم ومنزلهم فطاهر صديق العمر ورفيق الدرب يردفني في عجلتة فيما بين دروب ام سويقو وحي الطملة القديم، مروراً بانتقالهم لمباني السكة حديد الفيكتورية لمدني الثانوية في رحلتي الذهاب والإياب، وامتدت مجالستي ومؤانستي لهم مساءات لقبيل منتصف الليل. عهدتهم وسيعي الصدر كثيري الجلد ودودون حد الترف، وسيمو الخلق، كان بيتهم لا يخلو من ضجة وصخب الأهل والاصدقاء والجيران، وحرارة اللقاء بقيم التواصل العالية ينتهي بمهابه الصوت الجهور لوالدهم عمنا محمد أحمد رحمة ربي تغشاه في علاه ذلكم الصوفي اللين الجانب القوي الحضور، ولسان حاله كما الفيتوري :
تاج السلطان الغاشم تفاحه تتأرجح أعلى سارية الساحة
تاج الصوفي يضيء على سجادة قش صدقني يا ياقوت العرش
أن الموتى ليسوا هم هاتيك الموتى والراحة ليست هاتيك الراحة
قدر لي المتعال مرافقتهم في رحلة عمر تمددت في دروب تلك المدينة الحانية، وسارت بنا حتى الاغتراب بالسعودية، جعلني أتلمس معدنهم الأصيل عن كثب، فشملني تواصلهم الحاني فيمن حولهم ذات التواضع والبساطة والألق والوسامة كأول من يخفون إليك فرحاً وكرهاً، وآخر من يترجلون، لم يتغيروا فهم من يزينون الأشياء، ولا يتزينون بها؛ لتبدو بلا استئذان من ضمن أشيائهم لدرجة أن لا تتبين نفسك منهم تفاصيل، وقدراً سراً وعلناً حضوراً واحتجاباً.
أهكذا يا سماح ترحل بذات الهدوء الذي تتلبسه طول هذه السنين لما ادرت خِفافا .. ولم تقل وداعاً.. حتى ولم تغلق الباب خلفك .. لم تأخذ شيئا معك حتى اسمك السمح تركته لنا سماحا مسامحا فسامحنا أنت أيها السمح وأعلم بانك تركت حزناً عميقاً .. وجرحاً غائراً في قلوبنا ..
كم تمنيت اللحاق بأنفاس باقية منك علني أتنسم روائحك ومواقفك الزكية وروحك الطاهرة الصفية التي ارتقت مع اأابرار لعلياء قصيه وأنت في رحاب سنية ومدارات علية كم وددت أن أجالسك وأدنو منك وأضمك قليلاً؛ علني أصيب قليل اتزان في هذا الزمان الذي تخوننا فيه جغرافية المكان بعيدا ً٠٠لا عليك إن قبرت اليوم بالدمام، فكل أرض تشتهيك قبراً، وكل سيرة تقتديك اثراً، وكل ثنايا تعتليها حزناً نبيلاً، أسال الله المتعال أن يفرغ صبراً جميلاً على الوالدة وحسام وطاهر وأبو الوفاء وأحمد والفضليات البنات وعلى أصدقائه ومحبيه وزملائه .
اللهم ارحمه وانزل عليه الضياء والنور والفسحة والسرور، رب اجعل جنانك هي داره وقراره ومستقره ومقامه ويمن كتابه، ويسر حسابه، إنك القادر على ذلك.
الموت حق ولا نقول إلا ما يرضي الله، الحمد لله رب العالمين، ولاحول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
الرياض 18مارس 2020م