دعوة لتبني فكرة إنشاء المعهد الديمقراطي السوداني؛ ليكون أول لبنة في بناء صرح الديمقراطية الجديدة
تمديد الفترة الانتقالية ضمان لاستكمال مهامها المنتقصة وتمهيد الساحة لقيام المعهد وكشف خدعة الانتخابات الحرة النزيهة
ربما جاز القول إن المستعمر الإنجليزي الذي صمم إطار ومحتوى تعليم الرعيل الأول من السودانيين على شاكلة ما فعل لبني جلدته ، لم يبخل عليهم بكل ضروب العلم الحديث ما عدا علم الديمقراطية الراسخة.
والحقيقة أنه رغم أن ذوي العيون الزرقاء يعدّون ضمن كبار مهندسي نادي تلك الحرفة الأوروبيين، يبدو أن التمريرة الديمقراطية للسودان كانت قصيرة. كما في كرة القدم، وهم مهندسوها لوحدهم هذه المرة، ربما لم يكن قصر التمريرة من لندن الى الخرطوم عمداً أو قصوراً، بل يجب أن ننحى إزاءه باللائمة على أنفسنا.
الذي يعضد ذلك الاعتقاد أنه خلافا لذلك ، كان لهم شرف تزويدنا بأساسيات العلوم الحديثة الأخرى اللازمة إلانطلاق الدولة المدنية منزوعاً منها جينة الديمقراطية بشكل خاص، حتى نشأت معاقة تحمل في طياتها مورثة عدم الاستقرار السياسي والمهني.
ولست أدري إن كانت مصادفة أيضاً أن يغادروا بلاد السمر، ويشهد لها العالم بوجود خدمة مدنية نموذجية وجيش منضبط، ولكن مع ترك نظام سياسي مضطربا، في عدم اتساق واضح لمخرجات السودنة آنذاك.
ولكي لا نلقي بسوءاتنا على غيرنا ، يتعيّن أن نقر بادئ ذي بدء بأننا لم نبذل الجهد الكافي لسبر أغوار الفلسفة الديمقراطية بالشكل الذي يساعدنا على بلورة النمط الديمقراطي الذي يناسبنا، بل ذهبنا الى أوربا و”لفحنا” منها أحد الثياب الذي تتدثر به الديمقراطية الغربية لنغطي به عيوب انتخابات التصويت، بالإشارة، ونستر به عورة برلمان خلطة المتعلمين والأميين الذين نستعرض فيهم قدراتنا اللغوية، ونداري به تكوين حكومة محاصصات شخصية من تلك النخب، جاهلين أو متجاهلين تماما لثلاثة أسس مهمة لإقامة أي نظام ديمقراطي صلب وقادر على الاستجابة لمتطلبات أي مرحلة في ذات الوقت.
أولا : دراسة واستبعاب الديمقراطية بوصفها فلسفة ومبادئ وثقافة وقيمة تناسب بناء الدولة العصرية .
ثانيا : بناء المنظمات الدبمقراطية لتكون أوعية تستوعب مختلف المصالح والصراعات في إطار الوطن الواحد.
ثالثا : تعلم وتطبيق الممارسة الديمقراطية في كافة مناحي الحياة.
ويمكن القول إن عدم استصحاب ديمقراطية السودان “الملفوحة” من المصنع الانجليزي لتلك الأسس مجتمعة، أسفر عن ميلاد ديموقراطية تفتقر إلى أدنى شروط الاستدامة؛ مما جعلها هشة “تتاكل” أمام أول قضمة عسكرية في أي وقت يريد العسكر.
إذن كنا ومنذ صبيحة الاستقلال فرحين بديمقراطيتنا مثل من رزق ولداً زغردت على إثر نبأ اعلان ولادته القرى والحضر التي لم تكن تعلم شيئاً عن إعاقته الطبيعية الكاملة.
وفي اعتقادي أن كل الدراسات الأكاديمية والتحليلات الصحفية التي تناولت سر ومغزى تعاقب الأنظمة الديمقراطية والعسكرية في السودان فى أعقاب الاستقلال بشكل نمطي متساو ( ٣ لكل مع تفوق العسكر في الاستحواذ) اتفقت على وجود ظاهرتين: الأولى خلل في التجربة الديمقراطية يفضي الى عسكرة الدولة، والثانية شعب علم شعوب المنطقة العربية والأفريقية منهج السلمية لإسقاط أعتى البلطجيات العسكرية.
وبرغم ذلك الاتفاق ، لم تفلح تلك الدراسات في تشخيص مرض الديمقراطية السودانية، مع إنه ظاهر كالبرص، وبالتالي لم تفلح في وصف الدواء، وهما أمران سنتناولهما حالاً.
فلإذا كانت الأمم والشعوب قد اجتمعت على ضرورة إنشاء البنيات الأساسية المادية مثل المدارس والمستشفيات، ومن ثم وضع البنيات القانونية التي تنظم عمل تلك المؤسسات؛ استناداً إلى فلسفات ومبادئ وقيم خاصة بكل مجتمع أو مشتركة، وصولاً إلى المحافظة على المصالح المجتمعية والفردية، أليس لنا الحق أن نتساءل: أين الجسم المادي الذي من خلاله يتعين أن يتاح لأساتذة علوم الديمقراطية محو الأمية السياسية، وتعليم وتدريب الشعب على فنون العمل الديمقراطي نظرياً وعملياً قبل أن ينخرط لبناء كافة منظمات المجتمع المدني، وقبل أن يتعلم ممارسة الديمقراطية
إذن الديمقراطية التي لا تقبل القسمة على انقلاب عسكري تتطلب إعداداً خاصاً، ولا تترك الأمور لكل من بهوى أن يزعم أن لديه حزباً للعدالة والتنمية وآخر للتنمية والاستقرار، وثالث للاستقرار والديمقراطية بحيث يضطر صاحب الحزب رقم 99، وهو الرقم المفضل في انتخابات العرب، أن يتوجه إلى الغرفة التجارية بحثاً عن اسم لحزبه فيصده الموظف بأن هذه الجهة خاصة بالتصديق لشركات القطاع الخاص، ولكنه يصر على أن حزبه “خاص به وشقيقه وبعض الأصدقاء” تم تكوينه خلال “قعدة” بشارع النيل العظيم أمس الأول .
وهو في هذا يحاكي “سديقا” من دولة جنوب شرق ٱسيوية أبرز لموظف جوازات المطار بدولة خليجية موردة للعمالة الأجنبية جواز سفره وإقامة، وهو يدخل لأول مرة، وعندما سئل عن مصدر الاقامة، أجاب بأن “كل شيء جاهز: “جواز، إقامة، كلو كلو”.
شيئان ضروريان لإعداد المسرح لوضع أول لبنة صلبة لصرح ديمقراطي جديد:
الأول الأستاذ المعلم الذي تزود بعلوم الديمقراطية فهماً وتنظيماً وممارسة. والثاني المبنى الذي يقوم من خلاله بتدريس المادة النظرية والعملية.
ودرءاً لتكرار فشل الديمقراطية الرابعة، وتحوطاً لإتاحة فرصة لقدوم عسكر جدد، هذه دعوة لتبني فكرة اختيار مجموعة من شباب الاعتصام الناجين، ليس فقط ممن فضوا الاعتصام ، ولكن أيضا من شر الانتماء لأي من أحزاب الماضي الحزين، وابتعاث أولئك الشبيبة إلى جامعات ومعاهد بالخارج والداخل للتخصص في الفكر الديمقراطي، وعلاقاته بحقوق الانسان، ومبادئ الكرامة والعدالة والحرية والسلام، وإدارة العملية السياسية التداولية، و بناء منظمات العمل المدني عموماً، والأحزاب السياسية خصوصاً، وبما لا يزيد على ثلاث كتل سياسية، ومن ثم نقل ذلك العلم لتدريسه في مباني المعهد الديمقراطي التي يمكن إقامتها في دور المؤتمر الوطني المحلول في العواصم والمدن الكبيرة، بحبث لا يتسنى لغير خريجيه ممارسة العمل السياسي المقنن.
أي يمكن لأي عاقل أن يقول في السياسة ما لم يقله أحد في “الهايدبارك” و”فراشات البكا” ولكن لن يترشح أو يدل بصوته في انتخابات او استفتاء ما لم يتخرج في أحد فروع المعهد.
في الدول المتقدمة يستحي الشخص البالغ النصاب العمري أن يشارك في العملية السياسية أو النقابية دون أن يكون مؤهلاً أكاديمياً لذلك العبء القومي فيسجل بطوعه ليتخرج متعلماً في أقرب معهد ديمقراطي.
أما بالنسبة إلينا، فاذا انتهت الفترة الانتقالية الحالية بنسبة إنجازات غير مرضية للثوار، وهو الاحتمال الأرجح حسب المخطط الذي يجري تمريره حالياً، ينبغي أن يقوم الثوار في الوقت المناسب بمليونية تمديد الفترة الانتقالية حتى تتحقق مجموعة أهداف قومية كما يأتي:
الأول : استكمال مهام الفترة الانتقالية تعويضاً للزمن الضائع بسبب “فاولات” المكون العسكري المعتمد (ضلع مجلس السيادة) والمتمرد (المنطلق من نادي جوبا) .
الثاني : إعداد المسرح لإطلاق ديمقراطية جديدة غير مهددة إطلاقاً بأن يعترض سبيلها “رباطة” من خور “عمر” أو ديوان كبيرهم، وذلك من خلال إكمال البنيات العلمية والقانونية والمادية لقيام أول معهد دينقراطي بالبلاد، وسيادة خريجيه الشباب وبعض المخضرمين على الساحة .
الثالث : كشف خدعة الانتخابات الحرة النزيهة التي يتشدق بها من وصلوا الحكم إما عن طريق الأتباع أو شراء الذمم أو التزوير أو الإرهاب كما هو معروف إبان العهود الديمقراطية – مجازاً – والعسكرية السابقة باستثناء حكم عبود الذي لم يسمح بغير كرة القدم جزاه الله خيراً.
الرابع : اتساع البون العمري بين عواجيز الأحزاب التقليدية والعقائدية والوصول ببرامجهم وممارساتهم الفاشلة الى سدة الحكم مجدداً.
الخامس : القضاء على احتمالية قدوم عسكر جدد من خلال فشل مؤكد للنسخة المكررة للديمقراطيات السابقة .
إذن أمامنا خياران : الأول إجراء إنتخابات عقب “كلفتة” الفترة الانتقالية الحالية وفوز خليط من الحابل والنابل خلال ما سيصفه الإعلام بأنها انتخابات حرة ونزيهة، ما يفضي بعد بضع سنين قليلة إلى حكومة عسكرية رابعة بتأييد من معارضة ذاك الزمن.
الثاني : إعلان تمديد الفترة الانتقالية وإقامة مراسم عقد زيجة بين المعهد الديمقراطي والشعب السوداني، وولوج عهد جديد يرسمه الشباب والكنداكات عشاق الحرية والإبداع.
خليفة أحمد (أبو المحيا)
الرياض ، المملكة العربية السعودية