استمعت إلى مقطع صوتي منسوب إلى شرطي سعودي في منطقة القصيم يشيد بالتزام السودانيين بحظر التجول، ويقارن بينهم وبين الآخرين، ويظهر بين الحين والآخر إعجابه بالسودانيين بكلمات تبدو صادقة من نبرته، ويصفهم بأوصاف يفتخر بها كل سوداني.
مقابل هذا السلوك الذي يشاد به في خارج السودان، نجد
أن الطلاب العائدين إلى بلادهم من الصين عبر الإمارات العربية المتحدة يرفضون
الخضوع لإجراءات طبية روتينية؛ للتأكد من عدم إصابة أي منهم بفيروس كورونا.
إذا جاء الرفض من الذين لا يتيح لهم زادهم من العلم
تصور خطورة الموقف الذي نحن فيه يبدو الأمر مبرراً، ولكن أن يكون الرفض من طلاب
علم، ذهبوا يطلبونه في الصين، يصبح التساؤل مهماً عن مستوى الوعي في بلادنا، وعن
فائدة العلم إذا لم يزل “البلم”.
كما أن التناقض بين المثالين يطرح سؤالاً: هل نحن نخاف
ولا نختشي؟ اعذروني إذا كان السؤال صادماً، ولكن ما معنى أن نلتزم الأنظمة
والقوانين خارج السودان، ثم نضرب بها عرض الحائط، ونحن في حضن الوطن.
لقد وصلت إلى قناعة بأن منا من يشعر أنه سيد البلد وفي
رأسه ريشة إذا كسر التعليمات، وخالف الأنظمة، وذلك أنني تابعت حركة الشارع بعد
دخول وقت الحظر، فوجدت أن المارة يسيرون والسيارات تملأ الشوارع، كأن الأمر لا
يعنيهم، وكأنهم لم يسمعوا عن الحظر.
كثيرون يأمنون العقاب، لأن الواسطة نافذة، والعواطف حاكمة،
والاستثناءات في كل لائحة ونظام وقانون أكثر من الضوابط والمعايير.
وسنجد التناقض أيضاً حال من يمسكون بدفة السلطة، ويوجهون عامة الشعب، ولا أدل على ذلك من مشهد عزاء وزير الدفاع الراحل الفريق أول ركن جمال عمر، رحمه الله رحمة واسعة، وصبّر أهله.
لقد نسى كل المسؤولين التحذيرات التي أطلقوها،
والاحتياطات التي طالبوا بها الناس، فاصطفوا وتراصوا وأنفاسهم تتمازج، وأجسادهم
تتلاصق، وتتدافع، ووسائل الإعلام تنقل المشهد، فيضرب الناس كفاً بكف عجباً ودهشة،
بينما من يحكّمون العاطفة يبررون بأن الموقف صعب، والسلوك عفوي، وتناسى هؤلاء أن
كل أسرة تعتز بأي شخص تفقده، وهو عندها أفضل من أي مسؤول مهما كانت أهميته، وعظمت
مكانته.
ولقد تابعت برنامجاً توعويّاً بدا مضمونه جيداً، ولكن
كانت الأصوات التي تخاطب مقدم البرنامج من الولايات تجأر بالشكوى من استمرار
الحياة على صورتها المعتادة، فالأفراح والأتراح لا تزال تقام، والتجمعات في
الأماكن العامة مستمرة، وما زال الناس يصرون على السلام بالأيدي، والأحضان، واللعب
في الوجه بتضاريسه المختلفة.
وسط هذا المشهد المستفز تأتي البشريات، فتنهض منظمات المجتمع بدور كبير في التوعية، وتوفير متطلبات درء الوباء اللعين، وسرّني أن يكون الملتقى السوداني الثقافي الاجتماعي الرياضي في الرياض ضمن تلك المنظمات التي تسعى إلى التخفيف عن أهلنا، والإسهام في درء الخطر، إلى جانب منظمات كثيرة في المهاجر هبت من أجل الوطن وأهله، ولقد تمنيت أن تكون هناك وسيلة للتشبيك بين هذه المنظمات، لتتضافر الجهود، وتتكامل الأدوار، وتتعاظم الفوائد.
ونختم بالقول: الحكاية جد، وقد فقدنا ثلاثة من خيرة شبابنا في هذه الجائحة في بريطانيا، وفرنسا، والإمارات، وشاهدت اليوم طبيباً سودانياً يخاطبنا من بريطانيا محذراً من وهم الجو الحار الذي يقينا من “كورونا”، وقال بالبلدي: احذروا وإلا متنا “موت الضان”، بسبب ضعف إمكاناتنا، ورفض الطبيب الشاب أن يذكر اسمه، مما يعني أنه ليس طالب شهرة، وأضاف: بقينا نشتغل (في بريطانيا) خيار وفقوس: الشباب نعالجهم، وكبار السن “نسيبهم ياكلوا نارهم”.. يا ناس في تحذير أكتر من كدة؟