مضت الحياة فِي طريقها كعادتها فِي مهلٍ وريث، هادئة حيناً ومطمئنة وعابثةً حيناً وخائفة، تتسارع أحداثها الحاضرة فتجب ما قبلها مِنْ آثار رفيقاتها الماضيات. وكنت قد عزمت واليوم جمعة، أنْ أزور الدكتور جمال الدين الصاوي، أخي الذي لمْ تلده أمي، وزميل الدراسة أيام الصبا فِي مدرسة كوستي الثانوية. وهو أحد أميز أطباء السودان. تخصص فِي أمراض الباطنة فِي المملكة المتحدة. حين تسمع عنْ سيرته الطبية فِي ديار غابت عنها الشمس عنوةً يبلل وجهك مزيج مِنْ الفخر والدهشة، فبعلمه فاقت شهرته الحضر والآفاق.
يحكي زملاء له زاملوه فِي عاصمة الضباب “لندن” أثناء دراسته التخصصية أنْه قد أدخلت إلى المستشفي امرأة بيضاء البشرة شقراء الشعر، سلخت بضع وثلاثين مِنْ العمر، وقد ذكر زوجها أنَّها أصبحت عنيفة الهياج سريعة الغضب على غير العادة، وأنَّها تنام كثيراً ويصل نومها إلى نحو ثماني عشرة ساعة فِي اليوم الواحد، وكانت تعاني ارتفاعاً فِي درجة حرارة جسمها. وكان ذلك ضمن الوحدة التي يعمل فِيها، فِي أول التحاقه بالمستشفى اللندني. وكان فريق العمل يتكون مِنْ رئيسة الوحدة وهي طبيبة تعتبر إحدى نوابغ الطب البريطاني فِي اختصاصها، وطبيبين أحدهما مِنْ إنجلترا والآخر مِنْ أسكتلندا وطبيبة مِنْ أسكتلندا وجمال الدين، وطرحت رئيسة الوحدة سؤالاً: “ما هو التشخيص المناسب لهذه الحالة؟”، كان الرأي الراجح للجميع أنْ يكون السبب ورماً فِي المخ، ما عدا جمال الذي فاجأ الجميع بسؤالٍ غريب: “ما هو الشيء الذي يؤثر على الجهاز العصبي المركزي للمريضة ولا علاقة له به؟”
وحين أرخت الدهشة زمامها أجابته رئيسة الوحدة بغطرسة واضحة: “سؤال غير موفق .. إنَّ وجود ورم بالمخ يفسر حالة الهياج والغضب ويفسر حتى حالة النوم الطويل .. نظر إلى رئيسته متحدياً وقال: “إذن بيننا الاختبارات والتحاليل” .. تبادل الأطباء البريطانيون النظرات غير مصدقين أنَّ هذا الذي أتى مِنْ بلادٍ تحرق فِيها الشمس العقول يتحداهم جميعاً، أجريت للمريضة اختبارات الدم والرنين المغناطيسي اللذين أسفرا إلى لا شيء، لمْ تظهر اختبارات الدم شيئاً، ولمْ تظهر صورة الرنين المغناطيسي ورماً فِي المخ، ومع ذلك أصرت المجموعة البريطانية على أنَّ الورم قد يكون صغيراً جداً لذا لمْ يظهر فِي صورة الرنين المغناطيسي، وجمال الدين يصر على سؤاله “ما هو الشيء الذي يؤثر على الجهاز العصبي المركزي دون أنْ يكون جزءاً مِنه؟”
فِي هذه الأثناء ساءت حالة المريضة وظهرت أعراض أخرى كالاستبهام وهو عدم القدرة على فهم الإشارات والأشكال أو التعبير عنها، كرسم الدائرة أو المثلث مثلاً، ثم ساءت الحالة أكثر حين بدأت المريضة فِيْ التشنج بشكلٍ عنيف. هنا دق جرس الإنذار وبدأت الغطرسة تتصدع، واستعادوا سؤال ذلك الطبيب الجديد القادم مِنْ بلادٍ تحرق الشمس فِيها العقول: “ما الذي يؤثر على الجهاز العصبي المركزي دون أنْ يكون جزءاً مِنه؟”، لكن الغطرسة تتصدع دون أنْ تتلاشى، أصرت الطبيبة الرئيس على وجود ورم هذه المرة فِي الثدي اعتماداً على نظرية الأجسام المضادة، ومضى أحدهم على أنها حُمى الأرانب أو التولاريميا اعتماداً على ارتفاع درجة حرارة الجسم، فجاءت صورة الثدي الشُعاعية بتكلسات صغيرة لا يمكن أنْ تفسر الأعراض التي تحدث، ورغم ذلك كان القرار الطبي للرئيس حقنها بأجسام مضادة لعلاج الأعراض، وقبل البدء بحقنها بدأت المريضة تحك جسمها بشدة وتصرخ بأنَّ شيئاً ما يتحرك تحت جلدها.
لكن الغطرسة لا تتلاشى فقرروا أنْ يحقنوها بمضادات حيوية تناسب حمى الأرانب، حينها رمى جمال الدين بثقله، ما بالكم لمْ تفكروا فِي مرض النوم، فالإصابة به هي الأقرب للمنطق، وهي تفسر كل الأعراض مِنْ نومٍ طويلٍ واستبهام وتشنج وخلافه، وهو غالباً ما يحدث فِي المراحل الأخيرة للمرض حين يهاجم الطفيل المخ لذا قد لا يظهر فِي مسحات الدم وهذا يفسر عدم إيجابية اختبار الدم. ضحك أبناء البشرة البيضاء وقالت الطبيبة الأسكتلندية، لكنها لمْ تغادر بريطانيا لأي بلدٍ قط ناهيك عنْ إفريقيا، كما أنْ زوجها لمْ يسافر إلى تلك النواحي أيضاً، وحسب سجلاتها الطبية لمْ ينقل لها دماً إطلاقاً. قاطعها قائلاً: “.. أو أنَّ إفريقياً مثلي قدم إلى هذه البلاد وضاجعته حباً أو خداعاً”. وجم الجميع كأنَّ على رؤوسهم الطير، فسألهم قائلاً: “ماذا بكم؟ .. ألا تعلمون القاعدة الطبية التي تقول إنَّ ما ينتقل عبر الدم يمكن أنْ ينتقل عبر النشاط الجنسي؟” .. يمكنكم الاطلاع على البحث الذي قدمه الطبيب الأمريكي العالم روتش وزملاؤه عام 2004م عنْ احتمالات الانتقال الجنسي والخلقي الوراثي لطفيل مرض النوم، وهو عنْ حالة مريضة أمريكية لمْ يكن لها علاقة بإفريقيا سوى أنَّ زوجها الذي يعمل فِي الجيش الأمريكي كان فِي مهمة فِي أنجولا، واعتبر حاملاً سالباً للمرض بعد التأكد مِنْ وجود الطفيل بدمه، وكان ابنهما حاملاً للمرض أيضاً وتم علاج ثلاثتهم. لكن الغطرسة لا سبيل إلى تلاشيها إذ سألته الرئيسة قائلة: “ألا يوجد لديك مكاناً للحب والإخلاص أبداً؟” ابتسم قائلاً: “أنا طبيب معالج ولست اختصاصياً اجتماعياً .. ومع ذلك فالإخلاص ليس أبيض اللون.”
وبينما هم فِي تلك اللحظات الحرجات دخل عليهم الطبيب الأسكتلندي قائلاً : “المريضة الآن فِي حالة غيبوبة كاملة! .. وإذا استمر الحال هكذا ربما تموت غداً صباحاً” .. صمت قليلاً ثم أردف: “.. سألتها قبل أنْ تذهب فِي نومها العميق إنْ كانت قد أقامت علاقة غير شرعية فأنكرت بشدة .. لكن شيئاً ما فِي عينيها ينبئني بأنها تكذب” .. صمت الجميع كأن قد صُب عليهم ماءً بارداً. نظرت الطبيبة الرئيسة إلى الدكتور جمال الدين كأنها تستعطفه، وقالت: “الآن هي لك” .. قال: “نحتاج إلى موافقة زوجها كتابة .. تعلمين أنَّ علاج هذا المرض قد يكون مميتاً وواحد مِنْ كل عشرة يموت مِنْ آثار العلاج” .. قالت وهي واجفة: “فِيْ هذه الحالة سنضطر لشرح وجهة نظرك للزوج .. وهو اتهام خطير لهذه المرأة التعسة .. ما رأيك يا جوردون؟” أجاب الطبيب الإنجليزي جوردون قائلا: ” ما قاله الدكتور جمال الدين خطير جداً لكنه التفسير المنطقي الوحيد لهذا التشخيص كما أنَّ حالة الغيبوبة ستعجل بوفاتها .. والعلاج هو مخرجها الوحيد .. لذا تجديني أوافقه الرأي .. على الأقل نحاول معالجة الأعراض .. ولا بد مِنْ إخطار الزوج بكل ما توصلنا إليه .. فأنت تدركين أنه المسئول القانوني الوحيد ما دامت المريضة فِي غيبوبة .. لا يمكن أنْ نعطيها علاجاً قد يودي بحياتها دون معرفته حتى وإنْ كان ذلك سيفضحها أمامه” .. لا بُد مما ليس مِنه بُد .. قام الفريق بإخطار الزوج فأرعد وأزبد أول الأمر واتهم جمال الدين بالجهل وسوء الخلق. قال له جمال الدين فِي هدوء: “لا وقت لدينا .. إنْ أردتها حية فلا بُد مِنْ حقنها بمضاد هذا الطفيل .. أو هي ميتة صباح الغد .. الأمر لك .. أنت صاحب القرار .. وأنا أتفهم حديثك وخيبة أملك ..” هدأ الزوج قليلاً .. وسأله كأنه يستجديه: “هلْ أنت متأكد مما تقول؟” .. أجابه: “هذا هو رأي الطبي .. إنها تحبك كثيراً وهذا سبب إنكارها أنَّها كانت على علاقةٍ ما مع آخر .. إحساسها بالذنب منعها مِنْ التصريح بما فعلت .. وهي تعاقب نفسها بالموت لفعلتها .. فهلْ يطالها كرمك فتعالجها؟” .. كانت فجيعة الرجل فِي زوجته التي أحبها عظيمة .. جلس هادئاً ساكناً بجسمه كله إلى الأرض، لا يرتفع له صوت بالإعوال، ولا ينخفض له صوت بالنحيب، وأقام على هذا الحال ردحاً، كأنَّما ينتظر أنْ تلم بِه آفة الموت فتتخطفه وزوجه فِي آنٍ واحد .. لكن المرض أرضى حاجته مِنْهما فهو لا يعود إليه، وإنْ طال انتظاره له فِي غير طائل، نظر إلينا فإذا أطواره قد تغيرت فِي جميع جوانبها .. لكنه قرر أنْ يعالج زوجته حتى يبرأ ذمته .. وتم علاج المرأة ولمْ يمض إلا يوم واحد حتى استيقظت مِنْ نومها الثقيل .. وإذا حياتها قد بدلت تبديلا، وإذا هي لا تستطيع النظر إلى زوجها لكنه سعى إليها بالعذر وغفر لها ذلتها .. نادته رئيسته واعتذرت عما بدر مِنها فكان رده: “لا يوجد فِي كلمة فريق حرفٌ واحد مِنْ حروفِ كلمة أنا” .. ومنذ ذلك اليوم عرفت بريطانيا طبيباً يشار إليه بالبنان.
ميريلاند – الولايات المتحدة الأميركية (يناير 2014).