منذ أكثر من ثلاثين سنة مضت من الشدة والعسر كانت وفود التفاوض تلتقي ثم تنفض في عواصم دول الجوار المختلفة، بحثاً عن سلام مفقود دون أن تتمكن من التعرف إلى ملامحه لتوصفه لنا وتبشرنا بقدومه.
وكنا نقول إن عدم وصول طرفي التفاوض الى اتفاق يعود
أصلاً إلى اختلاف أجندتهما الخاصة التي تقرر مسبقاً، وربما بإيحاء خارجي عدم الوصول
إلى أي اتفاق.
مؤخراً حمدنا الله أن الإنقاذ قد ذهبت بكل سوءاتها،
فارتفعت سقوفات الأمل أن بلادنا سوف تعبر سريعاً بلا تلكع إلى حيث يختبئ السلام،
وتأتي لنا به؛ لأن مكونات حكومة ثورة ديسمبر المجيدة وحملة السلاح، كلها ترفع ذات
الشعار “حريه .. سلام .. عدالة..” ويدّعون أنهم من فصيل واحد في التفكير
والرؤية تجاه السلام. ومن ثم، فإن الأمر لن يكون تفاوضاً وإنما حواراً حول ترتيبات
السلام.
وزاد تفاؤلنا عندما شُكّلت المفوضية وأُسندت إلى
شخص ذي فهم واسع ودقيق بتاريخ وجغرافيا وثقافة السلام وهو الدكتور سليمان الدبيلو
الذي ساندته كل قطاعات الثورة الرسمية ببعدها الشعبي. فاستبشرنا خيرأ مع وجود
ملاحظات بأن المفوضية قد جاء تشكيلها على عجل دون التشاور الوافي مع القوى
السياسية في البلاد.
دعونا نحسب كم مضى من الشهور التي أخذت تزحف نحو
العام منذ تعيين مفوضية السلام ونشر جدول عملها الذي بشرت به وسط القابضين على
الجمر في مناطق النزاع والحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق القصي.
لقد ركزت المفوضية منذ بداية عملها، معلنة مواصفات وملامح الذي خرج ولم يعد
(السلام) .. وقلنا فلننتظرونصبر والعافية درجات، لكن يبدو أن الأمر بعيد المنال.
فبعد ذلك الحلم الجميل الذي توقعنا أن تتسارع فيه دوران عجلة ترتيبات السلام وليس
مفاوضات السلام. لأنه كان هناك إقرار منذ البداية أن المكلفين بأمر السلام ليسوا
طرفين متضادين كما هو في السابق بل هما شيء واحد، وكل ما في الأمر هو ترتيب وتقنين
مراحل بناء السلام بإعلان مبادئ وإطار السلام، ومعالجة إفرازات الحرب، وإعادة وتوطين
اللاجئين والنازحين الذين فروا من ويلات الحرب الي قراهم بعد توفير متطلبات ذلك من
معينات مادية وتأهيل نفسي واجتماعي وغيره من من المستلزمات، ومن ثم التفرغ والانتقال
إلى قضايا البلاد القومية الكبرى فيما يتعلق بشكل وطريقة الحكم من خلال الاتفاق
على دستور تكون من أهم مفرداته المواطنة والحرية والمساواة والعدالة.
للأسف الشديد وفي العتبة الأولى من مساعي وبحث
المفوضية عن السلام “انبثقت”(لاحظ كلمة انبثقت ما تعنيه وترمز له)
وبقدرة قادر عدة مسارات جنحت للتفاوض، وليس الاتفاق على ترتيبات السلام. فكان هناك
مسار دارفور الذي تفرع منه ما سمي بشعبة عبدالواحد، ثم جنوب كردفان والنيل الأزرق الذي
تفرع ليكون مسار الحلو، ومسار آخر لعقار.. ثم مسار للشرق الذي أخذ يندمج مع آخرين
ثم ينفرد أحياناً لذاته. ثم أخيراً مسار غريب سمى نفسه الوسط ربما كان مولوداً غير
شرعي لكن اُلحق ليأخذ نصيبه من الورثة.
رضينا أن ذلك ربما كان واقعاً فرضته متطلبات
السلام لكن ما يحيرنا كيف يكون هناك مساران للسلام بجنوب كردفان أحدهما تحت لافتة
الحلو والآخر لعقار. ونسمع تصريحاً بأن السلام في جنوب كردفان قد بات ممكناً، وأن التوقيع
وشيك مع عقار. بينما تصريح آخر يقول إن مفاوضات السلام مع الحلو قد تعثرت، واستعصى
على المتفاوضين فك مصطلحاته وطلاسمه، بل أصبح بعيد المنال.
نستغرب …!! لكن قد نتفهم التفاوض مع الحلو في
جنوب كردفان.. لكن ماذا عن عقار الذي ليس له أرض أو جنود في الميدان، إنه لغز بحاجة
إلى تفسير!!! بل نتساءل طالما الامر كذلك لماذا غاب اللواء تلفون كوكو أبو جلحه عن
القسمة، وهو ذلك الرجل الذي ينادي بشده بضرورة التعايش السلمي بين كل مكومات
المنطقة سواء أكانت قبلية أم اثنية على
مبدأ المواطنة؟
لكن دعونا نتفاءل ونحلم ونفترض وصول المسارين (الحلو وعقار) إلى اتفاق، فأي الاتفاقيتين ستسود
لتحقيق السلام في جنوب كردفان؟ أهي نسخة الحلو أم عقار؟! ام لابد من مارثون تفاوض
آخر لتوحيد وثيقتي الاتفاقيتين.
وفي هذا ننبه أن في ذلك لعباً بالنار وضحكاً
على أهل المنطقة.. ونقول يا حكومة.. يا
مفوضية.. اعيدا النظر فيما يجري في مجال المفاوضات. فهناك صرخة شعبيه يطلقها أهل المنطقة
من وقت إلى آخر ربما لم تسمعوها، وفيها يقولون: نحن القوى الشعبية الاجتماعية الحقيقية
المتضررة من حروب المنطقة.. لقد مللنا الحروب بل حتى من الانتظار الطويل لتابوت السكينة
والسلام المجهول… لأنكم في مفاوضاتكم قد تجاهلتم البعد الشعبي المتمثل في الإدارة
الأهلية حيث الشيخ والعمدة والمك والناظر.. وكيف للسلام أن يقصي المرأة المكلومة في
فقد زوجها و تربية أطفالها يتامى الحرب … مفاوضات أقصت منظمات المجتمع المدني أيقونة
العمل الحقيقي، التي تحترمها المنظمات الدولية.. مفاوضات تناست شباب الفاقد التربوي
الذي أصبح بلا رعاية أو جهة تستمع إليه.. مفاوضات تجاهلت المتضررين الحقيقيين
الذين ما زالوا يتحسسون جراحات الحرب في جنباتهم وينامون ويصحون على مرارات أب وأم
وأخ وأخت فُقدوا بالقتل على الهوية. بل آخرون يحملون ذكريات الحرب المريرة والحرمان
من حتى حق المواطنة والمشاركة في الموارد.. نعم واضح أن هذه المفاوضات قد ركزت فقط
في التصالح بين أمراء الحرب في طرفين وتجاهلت آخرين … وهنا أعتب كثيراً على كل
القوى السياسية وخاصة الكبرى، التي تعد الضمان لسلام والاستقرار بابتعادها عن
مفاوضات السلام مكررة ذات الخطأ في تشكيل الحكومة الانتقالية التي تعمل بلا سند
شعبي، ويقرر في مصيرها لوبي اليسار..
واضح أن أي مفاوضات أو حوارات سلام لم تصطحب وتعالج
كل مفردات المعاناة والأنين في المنطقة، فإنها سوف تفتح الباب واسعاً مرة أخرى لعودة
آخرين إلى الغابة. وننبه إلى أن مظاهرات تلودي وكلوقي والليري وأبو جبيها و لقاوه
الثائرة ما هي إلا جذوة تحت الرماد، وستشتعل طالما أبعدت المفاوضات الجارية كثيراً
من المكونات التي أخذت تراقب في حذر منتظرة لحظة التعبير عن استيائها.
لقد بات
واضحاً لدي أن السلام ما زال حبيساً في كهوف جنوب كردفان، وبحاجة الى جهود أوسع تتكامل
وتتعاون فيه كل القوى السياسية لإخراجه الى ما بين النيلين.. فاشهد يا وطن…