عائداً من أول زيارة التقى فيها والدته مريم محمود وهو رهين محبسه في سجون الردة التي أعقبت أحداث يوليو 1971م الدامية، رفرفت ربة الشعر فوق رأسه المثقل بالهموم، وهزت بجانبيه كما نفضت جناحيها العقاب، وأملت عليه وحياً شعرياً شجياً، دوزنه من عصب (الزمن الأشتر)، والموقف الخانق فكانت (يا والدة يا مريم/ ياعامرة حنية/ أنا عندي زيك كم/ ياطيبة النية/ بشتاق وما بندم/ اتصبري شوية/ ياوالدة يا مريم/ ماني الوليد العاق لا خنت لا سرَّاق/ والعسكري الفرّاق بين قلبك الساساق وبيني هو البندم/ والدايرو ما بنتم).
بين(مريمين)..!!
و(زي ما النهر بيلقى مصب وأي حمامة بتلقى الحب) وجد محجوب نفسه بين (مريمين)، أمه وابنته، ومي وأميرة الجزولي محفوداً مرشوداً في حضرة النساء تماماً كعبقري الرواية المصرية نجيب محفوظ الذي أنجب بنتين (فاطمة) و(أم كلثوم) كان دائماً ما يقول أنا في ضيافة النساء.ولعل هذا ما أوجد في لا وعي محجوب شريف احتراماً بالغاً لهن كما يؤكد بنفسه.
ودانا لشالا وعزتنا ما شالا..!!
19 يوليو 1971م .. أياماً ثلاثة سادت فيها بيارق الشيوعيين خافقة، قبل أن تنتكس وسط عاصفة هوجاء من النار والدم.. ليتفرق الرفاق أيدي سبأ في أرض الخوف بين قتيل وشريد ومطارد، وكان محجوب شريف، أحد أولئك الذين سيقوا لغياهب السجون والمعتقلات زمراً بعد استحالة الحلم إلى كابوس، ولم يستعد الرفاق بعضاً من رباطة الجأش والثبات الذي تزلزل في خضم عاصفة الهجمة (النميرية) العاتية، حتى أطل المنشور السري الأول لحزب الطليعة الماركسية في أعقاب محنة (يوليو)، الذي قابله محجوب شريف بقصيدته الشهيرة : (غني يا خرطوم وغني) ومن مقاطعها الحافلة بالحماسة الثورية والمفعمة بالثقة في المستقبل (زي شعاع الشمس من كل المداخل/ جانا أقدر/ ختّ من فوق كتفك إيدو/ وهزّ بالمنشور وبشّر) وفيها أيضاً الأبيات التي تحوَّلت لأحد أشهر (كولينغ) للرفاق ( ديل انحنا/ القالوا فتنا/ وقالوا متنا/ وقالوا للناس انتهينا).
وفيما كتب لرفاق بينهم وردي مغادرة السجن، تحوَّل محجوب مع رفاق آخرين من زنازين كوبر العتيدة لسجن شالا بالفاشر بشمال دارفور، وهناك عُبئت الحناجر بالهتاف وأنشد محجوب قصيدته الشهيرة (ودانا لشالا وعزتنا ما شالا/ نحن البلد خيرها ومستقبل أجيالها/ يا الماشي زالنجى/ نتلاقى نتلاقى/ ما كلكم باقة/ اتفتحت طاقة/ واتحدت إذلالها).
ويروي صدقي كبلو في طروسه (تلك الأيام في سجون نميري) بعضاً منها قائلاً:”رغم ذلك فكان الرفاق يعيشون حياة رفاقية ثرة، ينظمون عملهم الثقافي ولياليهم الترفيهية، وكان محجوب شريف يملأ السجن شعراً. نظم محجوب في هذه الفترة قصيدة “ودانا لشالا” التي ذكرتها سابقاً ونظم قصيدة بمناسبة الذكرى الثانية لـ19 يوليو”.
ونظم محجوب أيضاً نشيداً شهيراً عن عبد الخالق يقول مطلعه (طيري يا يمامة/ وغني يا حمامة/ وبلغي اليتامى/ والخائفين ظلاما/ عبد الخالق حي/ وبالسلامة/ في الحزب الشيوعي).
بعد مغادرته السجن لم يسلم محجوب من أذى الأجهزة الأمنية سيئة الصيت، إذ كثيراً ما تعرَّض للملاحقة والتعذيب النفسي، وتضييق وسائل الرزق وسبل كسب العيش الشريف، لكن هيهات، ما لان عزمه وما انثنت له قناة، بل ظل واقفاً في وجه الريح كالسيف وحده، لا يبغي جزاءً ولا شكوراً، لا يدفعه إلى ما يبذل من جهد في التنوير مغنم أو مطمح، بل استجابة لنداء داخلي، يعضده اعتقاد يبلغ حد اليقين، أنها رسالة نبيلة يستحق أن يفني لأجلها عمره، وكأنه يقول إنه ليس لديه ما يخسره سوى أغلاله ليبدو كمن يستعصم بتعبير كارل ماركس وفردريك انغلس في (المانفستو الشيوعي) ذائع الصيت: (فلترتعش الطبقات الحاكمة أمام الثورة الشيوعية، فليس للبروليتاريا ما تفقده فيها سوى قيودها وأغلالها، وتربح من ورائها عالماً بأسره)..
لذا بدأ محجوب مصمماً، على الدوام في المضي قدماً مستهيناً بالصعاب، يلازمه ثمَّ إيمان قاطع، أن الشعب هو الأبقى.. كما يؤكد منتصر نابلسي: في مقالته (محجوب شريف العبقري الإنسان):”الإبداع لايقيده زمان ولايحتويه مكان ولا تأطره النظم ولا تكبله القـــوانين ذلك الفيض الإنساني المنساب عبر المصداقية، محجوب شريف شاعر ثــــرى البساطة غنى بالروعة أعطى من غير أن يطلب ومنح للكلمة ألقها وأناقتها وحفر عبـــر مشاعره الدفاقة لوحات خالدة عبَّرت بكل واقعية عن حياة السوداني بكل تفاصيلها ومعانيها بدون تكلف فتــــدفق عطاءً وإبداعاً وجمالاً وثورية يتفكك بكل ثقة من قيود الاستعباد والاستهجان يحمل الآباء في وجدانه الراقي ونفسه المشرقة بمعاني الحرية والانعتاق”.
أديني شهادة فقدانْ وجدانْ وضميرْ اتوفى..!!
لقد كان محجوب يحلم كما قال خليل اندراوس في إحدى مقالاته (بمجتمع يخلو من الاضطهاد والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي، بمجتمع المساواة التامة والعدالة الحقيقية).ومن المهم جداً الإشارة إلى أن محجوب أصبح فنهما من لدن تلك الواقعة (قوساً بيد الشعب) فقد تبرأ معاً من الغناء لغيره أو تمجيد من هم دونه. بل دعا محجوب على نفسه جهرة قائلاً في إحدى قصائده: (أديني شهادة فقدانْ وجدانْ وضميرْ اتوفى/ لو إني كتبتَ قصيدة تطقطِقْ أصابعْ حاكِمْ زلفى/ بيناتنا رفعنا ستارَ الكُلفةْ/ وأكلنا سوياً قوتَ الشعبْ/ مِنو الظلماتْ فيهن نِتخفى/ مِني الكلماتْ تبقى مَحَفة/ حَمَلتو عليها يلوح.. يلوح بالمنديلْ/ ولساني بساط أحمرْ ممدودْ/ يتمشى عليهو لِحَدت ما يدخل بُستانَ النومْ/ تباً للكلمة بتتسكعْ .. تركَعْ/ تدفعْ أكترْ.. تمدَحْ أكترْ/ تلبَسْ أقصَرْ/ وسط الهالاتْ تعبُرْ صالاتَ الجنرالاتْ وكِبارَ القومْ/ أديني شهادة فقدانْ وجدانْ وضميرْ اتوفى/ في ذاك اليومْ).
من ضواحى الدنيا جيت..وعليْ رحالى..!!
عقب انتفاضة أبريل 1985م التي أطاحت بالرئيس (جعفر نميري) أهدى شاعر الشعب، أمته أشعاراً ولا أورع، تموسقت وتراً أسطورياً تفيض رقةًً وعذوبة، بأنامل موسيقار وادي عبقر الراحل محمد وردي الذي تغنى لشعبه أيضاً مثلما لم يغن أحد.
من لدن (بلا وانجلى)، (وطنا)، (يا شعباً تسامى)، (يا شعباً لهبك ثوريتك)، (عريس الحما) التي تغنى بها (كورال الشيوعي)، في احتفالات الحزب بذكرى مرور أربعين عاماً على تأسيسه، لقد أضاء محجوب بسني برق حروفه الطريق للحزانى والتعابى والغلابى والكادحين. بإبداع عظيم؛ إبداع حي يمتليء حياة تشكل ملجأ لفصيل كبير من الناس، وتتضوع بالشذى والعطر.
لكن كثيرون يشيرون بطرف خفي إلى أن (أبريليات) وردي جاءت أقل قامة مقارنة بـ(أكتوبرياته)، التي جاءت قوية (عفية) لكن الشاهد أن لأكتوبر وجوه كثيرة ولأبريل يبرز وجه واحد يمثله محجوب شريف، لذا فهذا قطعاً سيكون ظلماً للأخير فضلاً أن تعدد شعراء الأكتوبريات قطعاً أفرز لونيات شعرية مختلفة بتعدد المشارب والثقافات، أضف لذلك أن محجوباً لم يكن صفوياً يسكن برجاً عاجياً، بل مثقفاً عضوياً يعيش مع البسطاء ويلتحم بهم لذا كان الأقرب للتعبير عن بساطة أحلامهم بذات لغتهم البسيطة، فظهرت كلمات بشعره من جنس لون كلامهم الذي يتحدثونه كـ(حدادي مدادي) و(حبابك ما غريب الدار)، و(عشة كلمينا/ ميري ذكرينا/ كل سونكي أحسن يبقى مسطرينا)، وغيرها من العبارات التي عبأت النشيد بالكلام العادي وليس الصفوي، وليس أدل على ذلك أن مقطع (من ضواحي الدنيا) في رائعته (يا جميلة ومستحيلة) التي التقطها محجوب من ثنايا حديث عابر داخل عربة نقل عام، عندما خاطب شخص الآخر قائلاً : (إنت جاي من ضواحي الدنيا داير تورينا الكورة)..!! وانطلق لا يلوي على شيء حتى بلغ محمد وردي الذي طلب منه مراراً تعديل عباراة (من أقاصي الدنيا) التي أبت أن (تسلك) معه في اللحن، وبشره أنه وجد البديل، بأن تصبح الكلمة (من ضواحي الدنيا) عوضاً عن (أقاصي الدنيا).
ﺟﻴﻨﺎﻙ ﻭﻛﻨﺎ ﻃﻠﻌﻨﺎ ﻣﻨﻚ ﻋﻨﻮﺓً ﻛﺪﺍ ﻭﺍﻗﺘﺪﺍﺭ ..!!
بعد انقلاب يونيو 1989م كتب على محجوب العودة مرة أخرى إلى سجن كوبر ولذات القسم (المديرية) في أغسطس 1989م، ومن وحي اللحظة تضوع شاعر الشعب نظماً: (جيناك ﻭﻛﻨﺎ ﻃﻠﻌﻨﺎ ﻣﻨﻚ/ﻧﺤﻦ ﻣﺮﻓﻮﻋﻲ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ/ﺟﻴﻨﺎﻙ ﻣﺮﻓﻮﻋﻲ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ/ﺃﻓﺘﺢ ﺯﻧﺎﺯﻳﻨﻚ/ﺃﻫﻮ ﺑﻨﻔﺘﺢ ﺻﺪﻭﺭﺍً ﻣﺎ ﺑﺘﻜﻮﺱ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺗﺐْ/ﻣﺎ ﻓﻴﻨﺎ ﻣِﺮْﻗﺎً ﻓﻴﻬﻮ ﺳﻮﺱ/ ﺑﻞ ﻓﻴﻨﺎ ﻋِﺮﻗﺎً ﻣﻦ ﺟﺬﻭﺭ ﺍﻟﺸﻌﺐ/ﻋﺸﻘﺎً ﻻ ﻳُﺪﺍﺱ/ﻧﺤﻦ ﺑﻨﺪﻭﺱ /ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻋﺎﻳﺰ ﻳﺪﻭﺱ /ﻧﺤﻦ ﺑﻨﺪﻭﺱ).
ثم يستعيد ذكرى أبريل غداة الاقتحام الأسطوري لسجن كوبر نهار انتفاضة السادس من أبريل 1985م عندما (حرر الشعب مساجينه وطلع) يهتف: (ﺟﻴﻨﺎﻙ ﻭﻛﻨﺎ ﻃﻠﻌﻨﺎ ﻣﻨﻚ/ﻋﻨﻮﺓً ﻛﺪﺍ ﻭﺍﻗﺘﺪﺍﺭ/ﺗﺸﻬﺪ ﺗﺮﺍﺑﻴﺴﻚ ﻫﺪﻳﻚ/ ﻭﻫﺪﺍ ﺍﻟﺠﺪﺍﺭ
ﻧﻬﺮ ﺍﻟﺠﻤﺎﻫﻴﺮ ﺍﻟﻌﻤﻴﻖ/ﺟﻠﺠﻞ ﺷﺪﻳﺪ ﺍﻻﻧﺤﺪﺍﺭ/ﺯﻟﺰﻝ ﺣﺪﻳﺪ ﺍﻻﻧﻜﺴﺎﺭ/ﺍﻣﺘﺪ ﺣﻮﻟﻚ ﻭﺍﺳﺘﺪﺍﺭ/ﻭﻣﻼ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ/ﻓﺈﺫﺍ ﺑﺄﺳﻮﺍﺭ ﺍﻟﻀﻔﺎﻑ/ﻭﺳﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻨﺨﻴﻞ/ﺣﻤﻠﺘﻨﺎ ﺃﻣﻮﺍﺝ ﺍﻟﻬﺘﺎﻑ/ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺼﺒﺢ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ/ﺣﻤﻠﺘﻨﺎ ﺃﻓﻮﺍﺝ ﺍﻟﻜﻔﺎﻑ/ﻭﻣﺪﺍﻣﻊ ﺍﻟﻔﺮﺡ ﺍﻟﻨﺒﻴﻞ).
وفي معتقل الإسلاميين حدثت واقعة جديرة بالتأمل إذ سأله ضابط الأمن عن الفرق بين معتقلاتهم ومعتقلات نميري فأجاب محجوب بثبات: “نميري لعنة الله تغشاه أينما حلَّ لكن، وأشار إلى شيخ كبير يعاني ما يعاني في غسل ملابسه في (طست) وهو يجلس على أمشاطه بضخامة جسده، وقال محجوب لضابط الأمن :”الحاصل دا ما كان بيحصل ليهو في معتقلات (أب عاج) وأنا لو خليتوني ممكن أغسل ليهو هدمو دي”..!!
أو تدرون من هو ذلك الشيخ؟!! إنه زعيم جماعة أنصار السنة المحمدية أبوزيد محمد حمزة .ولم يقف أمر السجون عند تقييد الحريات فحسب، بل اتحد (الاسبتوس) والرطوبة وفساد الأجواء بزنازين السجون والمعتقلات القميئة في إصابة شاعر الشعب بداء وبيل ألمّ برئتيه، عذَّبه طويلاً ثم تمدد الداء حتى استفحل وقتل.
وأرخت رائعته (غويشاية) لحالة الخوف والرعب التي كان يبثها “زوار الفجر” لايزالون وسط الناس.. ويسأل بعمق :”ما تسألني كم تمن الغويشايه..بل جاوبني كم تمن الطمأنينة”.. ويقول الشاعر الشفيف يحيى فضل الله :”هكذا يتساءل الشاعر محجوب شريف بنبضه الحميم تجاه حدث قد يبدو صغيراً عن ثمن الطمأنينة، ويتجوهر هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً ولكنه يملك من العمق و التكثيف ما يجعل الإجابة عنه تمر عبر جدال سياسي قد يؤدي إلى ذروة الهذيان، كم ثمن الطمأنينة في ظل حكومة الظلام التي تربصت بإنسان السودان؟!”.
ضحك.. ونسة.. وشاي..!!
يقول الكاتب الصحفي محمد عبدالماجد في مقالته الباذخة (سهى طفلة من أقصى الحنين): “محجوب جعل من المرض صديقاً.. تعايش معه.. ودخل في حوار أراد عبره أن يكسب المرض إلفة المعايشة والمؤانسة.يرفض محجوب شريف أن يتعامل مع (المرض) على أنه حلقة وصل بينه والآخرين.. يرفض أن يأتيه دعم من أي شخص، ولا يحب أن يشعر بتعاطف أي شخص معه.. هو أقوى من كل الظروف.. من كل الأمراض.. يقف ثابتاً.. ضاحكاً كالصخرة الشماء، يضحك (ويتونس) مع كل الناس.. ويفتح باب بيته في سعة لا تعرف التفرقة بين الداخلين… بهذا الحب وتلك القيم يحارب محجوب شريف المرض وينتصر عليه.هذا محجوب.. يرفض أن يكون في يوم من الأيام في موقف ضعف.. أو دعم… ربما لأن (الروح) التي يمتلكها تمنحه هذه القوى ويغنيه شعره عن أي شيء، يمتلك قناعة… تغني العالم أجمع”.
في حياة وأشعار وأسمار شاعر الشعب محجوب شريف ثمَّ احتفاء خاص بـ(الشاي)، ملأت حياته (مشوار حياته اليوماتي)، ونضحت بها أشعاره.. في (السنبلاية) التي تحكي مقاطع من تجربته الذاتية مع (أم مريم ومي)، أميرة الجزولي، رفيقة (كدِّه وتعبه وشقاه)، يقول (وبيني وبينك الضحكة.. ورحيق الشاي وطعم الخبز والسُتْره.. ومساء النور)..!! ولقد كانت تلك اللحظات المفعمة بالحنان دفقاً تعبيرياً صادقاً عن عمق الإلفة.. وصدق العُشْرة.. كما أنبئت عنها بصدق كلمة أسرته التي تلتها مي محجوب شريف بين يدي احتفائية أربعينيته : ” أعماله اليومية تبدأ بلمة شاي الصباح ثم يتجول بهاتفه لينجز كم مهام.. ومابين ما يلتقط أنفاسه لكتابة قصيدة وونساته وقفشاته لكل زائر، يحنو علينا ويمضي بقية يومه في تحريك الساكن والمهمل والمركون من الخير في قلوب الناس والأماكن”.
ويروي حسن الجزولي في مقالته :(محجوب شريف، ملك الشغب، وأمير المقالب !.):”كان يتنفس بهجة وضحكاً وفرحاً ومرحاً، في صباحاته ومساءاته، كأنه يرحمه الله يعبر عن حالة البؤس المدقع وضنك الحياة السياسية والاجتماعية بأن شر البلية هو بالفعل ما يضحك، كان ملكاً للشغب كما كان أميراً للمقالب، يبحث عن النكات الضاحكة ويعشق أن تُروى له بواسطة الصحاب فيقهقه من الأعماق حتى تدمع أعينه، ثم تراه يتولى صياغات جديدة لحكي الطرفة، فتدمع أعينك من طريقة روايته لها حتى وإن سمعتها من قبل!، يدبر المقالب والمواقف الهزلية ويسره ممارسة ذلك في أوساط المعارف الجدد تحديداً، قاصداً من ذلك كسر حواجز الهيبة والرهبة وتسليك دروب المباشرة والعادية في العلاقات الاجتماعية، ما كان يحفل بالبرتوكولات التي كان يتضايق منها والمقدمات المصطنعة للفعاليات والمناسبات، لذا فقد شهدنا له أنه لم يدخل في غيبوبة أو معاناة لحظة الاحتضار إلا لبرهة قصيرة ليفيق منها سريعاً كأنه قاومها بضراوة رغبة في مواجهة الموت وهو بكامل وعيه وحضوره وانتباهته”.
طوبى لمحجوب في عليائه..!!
لطالما شكَّل الشعر والغناء جسراً مكَّن الشيوعيين من العبور إلى المجتمع ونيل تقديره، فشعرهم يتسم على الدوام بالنزعة الإنسانية، لكن رموزاً ضمها في (حومة) الاشتراكية (طريق)، جلبوا إليها مذاقاً إضافياً قلل كثيراً من غربة الفكرة عن المجتمع الذي يراد لها التنزل في سوحه والتجول بين ظهراني مواطنيه، فكانت فاطمة أحمد إبراهيم على سبيل المثال المعادل الأنثوي لمحجوب شريف في الزهد وتلازم العفاف والكفاف، لترفد مثل هذه السلوكيات الفكرة بميزات أخرى وتضيف إليها المزيد من الأبعاد القيمية.فقد خرج الاثنان وقطعاً كثيرون مثلهم يقولون بلسان الحال: إن الشيوعية أو الاشتراكية ليست هتَكاً أو مدعاة للتبذل أو نافذة للترخص. ولعل (محجوب) ومثله كثيرون أيضاً أسهموا في الغاء المسافة الافتراضية بين المقالة والفعالة وأصابوا تعارضهما المحتمل في مقتل.
لقد كان ذاك طبعاً في محجوب وسجية بعد أن جافى جنبه عن المألوف من شهوة السلطة والثروة، فكان بشهادة الجميع لا يدخن ولا يشرب الخمر ولا يكذب ولا يخلف موعداً.. بل يرفض حتى التميز على الآخرين، حتى لقب بشاعر الشعب، كان يرفض أن يقترن باسمه معتبراً ذاك نوعاً من الامتلاء بالذات.ولعل غيرة الشريف محجوب وانفعاله بالآخر حد الغاء ذاته، ترفعه مقامات عليَّة كتلك التي يحوزها من نذر نفسه قرباناً لإسعاد الغير.
وتشهد كثير من المواقف والشواهد على الفيوض القيمية التي يتمتع بها شاعر الشعب، كما تدل مشروعاته الإنسانية وأفكاره الملهمة في تقديم العون بلا منٍّ أو أذًى وبشكل مباشر على اكتمال التجربة الإنسانية فيه وبلوغها مرحلة اتمام النعمة وجمال وحُسن الخُلق للدرجة التي يرتفع معها في فضاءات كبار النساك والعابدين ممن صفت أنفسهم وارتفعت هممهم عن كل ما هو ذاتي ودون.
وتتبدى اشتراكية محجوب في رهافة حسه تجاه الآخرين من الذين تتخطاهم أعين الناس ولا يعبأ بهم أحد كأم اليتامى وست الشاي والنسوة ضحايا الناسور البولي، ويحمل لهم بين يديه –لإسعادهم- مشاريع تضج إنسانية من لدن مشروع الهكر ونفاج وصحبة راكب والهبابة وغيرها وغيرها.
ويقول هلال زاهر الساداتي :” اتسع قلبه الكبير لأنات المحرومين والمشردين واليتامى فى دولة الأخوان المسلمين الإسلامية ، فآواهم في منظمة وضمهم كما تضم الأم الرءوم وليدها إلى صدرها”.
وتحتشد (يابا مع السلامة) وهي مرثية صاغها لأجل القيادي الشيوعي الراحل عبدالكريم ميرغني بقيم إنسانية نبيلة ومن عجب بدت كأنه قالها لنفسه.. إذ صارت أناشيد له بعد رحيله..
هكذا تتولد الأغنية عند شاعر الشعب..!!
وأخيراً يبقى ثمَّ سؤال كيف تولد القصيدة عند محجوب شريف..؟! هل يجلس الشاعر وأوراق على الطاولة أمامه، ثم يحدق في الحائط مترقباً الربَّة لكي تأتي وتلهمه؟.
لاشك أن لكل شاعر طريقته في الكتابة والحفظ عندما تداهمه لحظة مخاض الإبداع، فمنهم من يهرع إلى (صناديق السجائر)، أو قصاصات أوراق مهترئة علقت في جيبه كأمير الشعراء شوقي، ومنهم من يعمد إلى كتابته على الرمل دون اكتراث كعمر الدوش، أما محجوب فيقول إنه يظل يسعى على قدميه جيئة وذهاباً حتى يتمكن منها حفظاً وإجادة، قبل أن يدوِّن منها حرفاً واحداً على الورق، ثم يخرجها للناس، ولا يكتب شعره مستخدماً القلم والورق، بل يؤلف في ذاكرته ثم ينقله الآخرون عندما يمليه، ربما كان محجوب كفيلسوف الإغريق سقراط حينما تجرع السم إذ أخذ يتمشى في حجرة الإعدام القاتمة وحوله تلاميذه يتحلقون جزعين، ليسري السم بعروقه أسرع ويتمكن منه.. فلعل القصيدة بثقل حملها لا يملك محجوب معها إلا الجيئة والذهاب لتتمكن منه ويتمكن منها على غرار (حبيب الروح لا أقوى على حمل الهوى وحدي).. طوبى لكَ أيُّها الشاعرُ.. والقدّيس النبيل.. ونم هادئاً .. فضلك كم ترامى حضنا لليتامى.. وخبزاً للذين هم لا يملكون.
khalid2474@hotmail.com