حينما أحببناها.. لم نصطنع الكلمات لنتزلفها كما يتزلف المراهق فتاة حلوة ممتلئة الشفتين .. وقد استولى عليه النزق القتّال . لم نرسم الحروف وهي تخرج من حناجرنا كما يفعل المراؤون .. لنُثبت أقوالنا في محاكم التفتيش . لم نبتذل القوافي المُحاكة كجبةٍ رديئة القماش لا تستحلي زيفها الأبصار . لم نصب في كؤوسنا الزجاجية أي قطرة نبيذ ولا هتفنا بإسمها وقد أعيانا الثمل . ولم نشرب على نخبها أي دم مسفوك ولا خضبناها يوماً برايات حمر ولا صفر و لا أخرى نُقش عليها زيفاً اسم الله .. لم نضارب على بضاعتنا في مزادات التكسب والتسكع بأزقة الفرص ونهازيها من المرابين . حينما أحببناها لم نكتب لها رسالة عشق واحدة .. لم نتلصص الطريق لندسها في جيب الوسطاء .. ثم نرجع لنتخيل بإلتذاذ غامر كيف أوقعناها في شراكنا كما كان يتوهم ” ابو الدرداق” نفسه و هو يُزف إلى حبيبته ” القمرة” ..
لم نتدحرج لمزالق البوح لأن صدورنا ما عادت تكتم سراً .. باحت بما فيها فتاة “حمرية” وهي تدندن على صهوة ناقة من فوق ” الشبرية” .. تنادي حبيباً غائباً في غياهب ” النشوق” سعياً وراء قطرات الخريف .. و هل تعرفون ماذا تعني ” الشبرية” و أين يكون “النشوق” ؟؟ عذراً مثل هذه الكلمات قد لا تجدونها في ” لايف” أو ” بروفايل” مرصع بالمعجبين .. ولكن ..وللمفارقة.. قد تجدونها في ” شخابيت” تافهة لثائر مغمور كالتي بيد يديكم الآن !
لا حاجة لنا بالصياح والنعيق .. لأننا ممتلؤن بأهازيج “البرتي” و رقصات فتياتهم السمراوات في شمال دارفور . نُميز زغاريدهن من على بعد مئات الأميال حين يقابلن رجالهن بشوق لا يعدله سوى حب واله لإنتصار السلم على الحرب . لا حاجة لنا بجلبة البراميل الفارغة .. لأن آذاننا ما زالت تستحلي فرقعة ثمرات المانجو و هي تتدفق من أعالي جبل مرة نحو سفوحه الخضراء .. فتقع على رأس ” دارفوري” نبيل وقر القرآن في صدره فعلمه أن يأخذ منها ثمرة ثم يترك الباقي لمن يحتاجه . لا حاجة لنا بالتجديف بصخب فوق الماء .. لأن هناك ثمة تمساح عشاري ضخم .. رأيناه يتردد على ضفتي النيل الأبيض بين ” الكوة” و ” كتير بلة” .. و ” الكنوز” و “الجزيرة ابا” و “الفاشوشية” .. فعّلمنا أن يترك الصغار الغافلين و شأنهم دون أن يعتدي عليهم و هم يسبحون في النهر نصف عراة .. علمنا هذا العشاري كيف تصنع المعروف ثم تغوص بجسدك في جوف النيل بتعففٍ ليس له صنو ..
لم نتسلق المرتفعات لنجلس على قمتها و نحن نرمق الآخرين بزهو كذوب .. لأن ثمة جبل ما يرقد على ضفاف النيل في الشمال يقال له “كربكان” .. هل سمعتم به ؟ لا بأس .. فهو نفس الجبل الذي تسلقه موسى ابو حجل حين قابل الغزاة الإنجليز فعرفوا عندها كيف يتحدى الرمح المدفع . هناك جندل بحربته الجنرال وليام ايرل ثم انزوى في غياهب التاريخ بلا طحن و لا دقيق.. هناك في مناطق المناصير والرباطاب حيث يلتف قضيب القطار بمسار نصف دائري ضخم وصولاً إلى ” عطبرة” مدينة الميعاد والمقاومة .. و أورشليم المتعبين و الجوعى !
ندوس على جراحنا كم يعصف جمل العصارة ببأسه حبات السمسم فينثال منها زيتاً زكي الرائحة .. السمسم الذي يأتي محملاً من القضارف.. حيث يختلط وقع أقدام الفلاتة والهوسا في رقصاتهم الجماعية ب”دوبيت” اللحويين و الضباينة و دندنات البني عامر والحباب والهدندوة .. حول فنجان قهوة وهم يتحرقون شوقاً للعدل والإنصاف. هناك تلتف هذه الأهازيج والأماني حول قضروف ود سعد كما تلتف ذراعا طفلة حلوة وادعة حول عنق أبيها قبل أن تنام .
نفترش العراء هنا في ميدان القيادة .. وفي كل الميادين التي يدعي أصحابها مقدرتهم على قيادتنا دون إذن منا. نكتب التاريخ ونحمي دفاتره من عبث المزورين و تدليس الأعراب الصديقة . نوثق لطفل ما زالت ملامحه تتشكل في غياهب المجهول .. كيف أحبت أمه ” الكنداكة” أباه حين كان غض الإهاب يهتف بصدق الأنبياء في وجه الجبروت .و لما جاءت الكاميرات لتنقل حقيقة ما حدث .. بحُ صوته ، و خرج الجبناء من الأزقة الخلفية فسادوا المشهد وتحينوا صمته لإسكاته الى الأبد . مارسوا عليه الوصاية بدرجة قرمزية فاقعة اللون .. و صار كل شيء كقطعة حلوى تتجاذبها مجموعة من الأطفال !
سنظل هنا موغلين في العتو والعناد بذات القدر الذي ظلت فيه قبة ” المهدي” برأسها المشروخ تقاوم صلف الإنجليز حتى المنتهى .. فذهب كتشنر وتخطفت جثته حيتان البحر . وبقي ذات الضريح بطيبه العابق وهو يتبسم بسمته الأخيرة وقد غادرت ساحته أقدام المحتلين برؤوس مطأطأة . سنبقى هنا بذات الإصرار الذي يُجّمع فيه نهر الدندر كل قطرة ماء بين الوديان و المفازات فيصرع الفناء و يكسر أنف قوانين الطبيعة . سنتدفق بذات الغليان الذي يهدر فيه نهر السوباط فيجرف كل ما واجهه من المطبات والمرتفعات و يمحو من شاء من الوجود . سنقاوم وفاءاً لعبدالعظيم و بابكر و محجوب و هزاع والطيب صالح .. وشوقي الذي قتلوه لأنه هتف من أجل قطعة خبز .سنقاوم وفاءاً لهم ولآخرين سيأتون دون تأخر في المواعيد الكبيرة . سنتذكرهم جميعاً حين تتواري أسماؤهم في ذواكر الانتهازيين المتسربلة بأغشية النسيان .. وهم يلهثون خلف الكراسي ويتنازعون على الفتات .
نحن أولاد هذه الأرض وجندها .. تتنسم هي رائحتنا كما تتنسم الأم رائحة ابنها .. تستنشقها كما يستنشق الطين الدعاش .. تحثو وجوهنا ب ” الهبوب” فلا نقول الا ما يرضيها تماماً كما كان يفعل ” اباداماك” مع أمه .. هذه الأرض هي أمنا ولنا في خدمتها دمٌ و عرق ..