6 أبريل يوم رائع في تاريخ السودان، عبر فيه أبناؤه عن قدرتهم على اقتلاع الطواغيت، والانعتاق من قيد الدكتاتورية إلى رحاب الحرية الفسيح.
أتذكر يوم الانتفاضة (6 أبريل 1985م) مساءً كان احتفال الجمعية الإعلامية، التي تضم طلاب الإعلام في الجامعات المصرية، وخصوصاً القاهرة والأزهر، بتخريج دفعتنا. كنا نرفل في ملابس أنيقة، ومع أمثالي من أبناء الجالية كان أفراد أسرهم، وجيرانهم، الذين ملؤوا جوانب نادي الوافدين في وسط البلد، وما أن بدأ الحفل الفني، حتى جاء من يهمس أن الشعب قد انتفض ضد نميري، وهو خارج البلاد، وأن الجيش في الغالب سيمسك النظام، وعلى رأسه وزير الدفاع سوار الذهب.ل
م ننتظر تأكيد الخبر في زمن كنا نعتمد فيه على الهواتف الأرضية، وعلى القنوات النلفزيونية المحلية البائسة التي لا تتحرك إلا بتوجيه الحاكم بأمره، ورحنا نردد الأغاني الوطنية الأكتوبرية، حتى غطت أصواتنا على صوت المطرب.
كان حفلاً هستيرياً بحق، وأنستنا فرحتنا الغامرة والطاغية هندامنا وأناقتنا، فغرقنا في بحر من العرق، والدموع، دموع الفرحة. ومنذ تلك الفرحة العارمة الوقت قررت أن أذهب إلى السودان لا المغترب كما كان يريد والدي، رحمه الله، المقيم آنذاك في السعودية.
سنوات قليلة قضيتها في السودان كانت عامرة بالعمل الحاد، والحب الصادق. عملت في صحيفة “السوداني” وتعاونت مع إذاعة وادي النيل التي كان يديرها الشاعر الإنسان سيف الدين الدسوقي، وكان بحق كبيراً في مقامه الأدبي، وفي إنسانيته المفرطة، وقد أعطاني لدورتين فرصة إعداد برنامج “حبايب .. حبايب” مع الزميل الإعلامي محمد الفاتح السمؤال.
كانت الأزمات طاحنة، وإيقاع الحياة مختلفاً عما ألفته في القاهرة، حيث أطلب فأُجاب.
ائتلفت مع حياة الخرطوم بكل مكابداتها في المواصلات، وصفوف العيش، وقطوعات الماء والكهرباء، وحياة العزوبية الجافة، لكن كانت قلوب الناس العامرة بالحب، واحتضان الزملاء في السوداني كباراً وصغاراً لي، ثم الزملاء في الصحف الأخرى، الذين كانوا على تنافسنا، ولهاثنا وراء الأحداث، من أجل إثبات الذات، ظلت بيننا حبال الود ممدودة، واللمة حول صحن “البوش”، والشاي، والقهوة، وحلوبات سلا مستمرة ودائمة، نتحايل بها على قسوة الحياة، وكانت الحيشان الثلاثة (الإذاعة والتلفزيون والمسرح) مرتعاً لي، أقابل فيها المبدعين في مجالات الفنون المختلفة، فتتقارب بيننا المسافات، لتتحول إلى ود وصداقة.
كنا شبابنا نمتلئ أملاً في أن بلدنا سيتجاوز كبواته بمزيد من الديمقراطية، التي كانت تتيح لنا حرية التعبير، إلى حد الانفلات أحياناً من دون خوف أو توجس.
باغتتنا السيول والأمطار، وصدمتنا بنتائجها الكارثية، ومع ذلك كان الأمل موجوداً، والشعب صابراً، إلا أن الشياطين كانوا يتربصون ويصطادون في الماء العكر، وتجسد فعلهم في بيان نظام الإنقاذ الذي تلاه العميد عمر البشير، ليزلزل كيان كل مؤمن بالديمقراطية، ومراهن على الحرية، وكافر بحكم العسكر، حتى لو كانوا ملائكة.
رفضت العمل في صحف الإنقاذ التي بدأت تظهر سريعاً، وذهبت إلى القاهرة، وأنا في ميتم كبير. وبعد الاغتراب، ظللت عشر سنوات منقطعاً عن الوطن، وما عدت للارتباط به إلا للدراسات العليا، وكنت طوال 30 عاماً أشعر بنفسي غريباً فيه، فليس هؤلاء هم من ألفتهم وعشت معهم، وأكلت معهم “الملح والملاح” كما يقولون.
أكثر ما يثير حسرتي انقطاع ما كان من تواصل بين زملاء المهنة، إذ كنا نتعلم ونتثاقف ونحلم سوياً، وكان ازدهار الصحافة -على ما عاب الممارسة من هنّات وسقطات- أهم سمات فترة الديمقراطية الثالثة، وكانت الندوات والفعاليات الثقافية والفنية من مسرح وغناء وتشكيل، والليالي السياسية تنتظم في أنحاء العاصمة القومية، وهذ ما أتاح لي شخصياً مزيداً من فرص التعرف إلى خريطة الوطن، فجاء البيان رقم (1) هادماً للذات ومفرقاً للجماعات، ومضيعاً سنوات كثيرة على وطن كان واعداً، وكان مدللاً بلقبين مميزين: “سلة غذاء العالم”، و”بلد المليون ميل مربع”، فأصبح للأسف يتسول غذاءه، ويعيش رزق اليوم باليوم
ومما يثير السخرية أن الانقلابيين رفعوا شعار “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”، وأحالوا أكبر مشروع في أفريقيا إلى أرض جرداء قاحلة، فلم يزرعوا ولم يصنعوا، وإنما سرقوا وولغوا في الفساد أيما إيلاغ.
وأضاع الإنقاذ رقم السودان المليوني المميز، بعد أن حصد بآلة قتل لا ترحم أبناءه في الشمال والجنوب، بعد أن أوهمت بعض الشباب اليافع أنهم يقاتلون الكفرة، فحق لهم أن يدخلوا الجنة لينعموا بالحور العين، وليقول شيخهم بعد حين أن من زفوا إلى الجنة ما هم إلا “فطايس”، وفي النهاية جلس النظام راكعاً ليوقع اتفاقية أضاعت جزءاً عزيزاً من الوطن، ليكسب مقابل ذلك سنوات يمكث فيها ممسكاً برقاب البلاد والعباد، فكان علينا ننتظر 6 أبريل آخر لنشهد ثمار ثورة ثالثة لشعب رائع خليق به أن ينعم بالحرية والسلام والعدالة.
ألم أقل لكم أن 6 أبريل يوم أكسبه السودانيون ألقاً، يا له من يوم محظوظ.