مش عارف حكاية إيجابية دي في الفيسبوك.. بس وجدت هذه الصورة تطل علي من أرشيفي، فما أجمل أن تكون في حضرة فنان باذخ جعل السودانيين على اختلاف انتماءاتهم يستمتعون بأغنية مترعة بالإيجابية والحنين.. “عديلة” التي يستشعر معانيها من لا يعرف النوبية لعظمة لحنها وملحنها، ويستمتع بالكلمة واللحن النوبيون لروعة كلماتها وكاتبها ولحنها وملحنها.. ما أجمل أن تكون في حضرة الفنان الشامل “شاعرومطرب وملحن ورسام”، وفوق ذلك كله باحث جاد، وضع للنوبيين قاموسهم الذي سيحفظ لهم لغتهم، وما زال يعكف على كشف مزيد من خبايا هذه اللغة، التي أذاب أهلها الغازين من كل فج عميق، بفضل أمهم الكنداكة، التي تهضم كل اللغات مهما كان علوها، لتذوب فيها، ولا يبقى لسان إلا لسانها.
مكي علي إدريس هو من أعني، وأظن أي نوبي عرفه من غير أن أفصح عن اسمه، إنه فنان وباحث سيقف عنده التاريخ السوداني والنوبي طويلاً، وسيعكف الباحثون المهتمون بتاريخ السودان وحضارة النوبة لمعرفة سر عظمته، وليقفوا على عمق معارفه، وأصالة عطائه الذي لا يشبه أحداً غيره.
إذا كانت معرفتك بالإنسان تزداد في السفر، فما أروع أن يكون رفيقك مكي علي إدريس، إنسان في قمة التواضع والإنسانية، تشعر به نسمة رقيقة، فلا ضجر في أي موقف، ولا جزع من أجل مطلب، وهذا يجعل من يرافقه في وضع حرج، فإذا لم ينتبه إليه لن يسأل عن مأكل أو مشرب، فحساسيته أزيد من أي إنسان يمكن أن تعاشره.
قابلت فنانين عمالقة، فوجدت كثيرين منهم يرهقون من يرافقوهم بكثرة الطلبات والإلحاح على أشياء صغيرة، تجعلك تندم على الرفقة والمعرفة، أما مكي فيزداد احترامك له لزهده وتواضعه الطبيعيين من دون تكلف.
كان نجم حفل اليوم النوبي الذي أطلقه أستاذنا محمد سليمان ولياب تاركاً بصمة ستظل له وحده، متعه الله بالصحة، وكان الاحتفال في جدة بتنظيم النوبي الأصيل الأستاذ رفعت نادر، النادر بحق، يا الله على النوبة المعطاءة، ما أن تأتي على اسم حتى تشعر أنه يستحق أن تقف عنده، وقد جمع النادر شخصيات نوبية قمة في الروعة أدباً وثقافة وإنسانية في ذلك الحفل، وددت لو أذكرها كلها، وهي من أسوان حتى دنقلا.
كان مكي نجم الحفل المفترض إلا أنه ظل يقدم الفنانين، وعندما صعد المسرج وضج الجمهور، امتلأ المسرح بالفنانين الذي رأوا أهمية نيل مشاركة هذا الهرم النوبي أغنياته الثورية.
“كجبار” الأغنية السلاح الذي حمله النوبيون في مناهضة السدود، كانت بلا شك حاضرة، غناها الجميع في حضور ممثل السفارة السودانية في عز عنفوان النظام البائد، ومثلت رسالة ليحملها إلى أصحاب الشأن، ليعرفوا كم يتمسك النوبيون بأرضهم، وكم هم مستعدون للتضحية من أجلها حتى لا تتكرر ماسأة حلفا، الجرح النازف، مسقط رأس شريك مكي في وضع المعجم النوبي أخي الحبيب خليل عيسى خليل الرائع روعة حلفا، وأهلها.
ولعل من المناسب إرسال إشارة إلى الحكومة الانتقالية لكي تفكر خارج الصندوق، فلا تلجأ إلى الاستسهال لتشرع في فتح ملفات النظام البائد مثل السدود، لتتبناها مشروعات للتنمية، وهي في الواقع معاول للهدم والدمار، ويكفي ما أصاب النوبيون من شروخ نفسية تتعمق كلما جاء ذكر السدود. ومن المؤسف أن تشعر أنه لا يوجد رشيد ينصح بطي هذه الصفحة المؤلمة.
تمنيت أن تطول رفقة مكي، لأنها تمتلئ بالفوائد الجمة كأن الإمام الشافعي حين ذكر من فوائد السفر تفريج هم وعلـــم وآداب وصحـــــبة ماجد عنى السفر مع مكي.
كنت أريد وضع صورتي مع الفنان الكبير مكي علي إدريس مع تعليق مقتضب وفق “موضة الإيجابية” إلا أنني وجدت نفسي مستدرجاً لحديث لم أخطط له، أو أفكر فيه، ويبدو أنني لو تركت نفسي للحديث عن هذا الإنسان لن أتوقف أبداً.
وأظن أن كثيرين يحملون هذه المشاعر، ولكننا جبلنا على عدم البوح عنها، بل نضن بها، وهذا أمر يبدو نفسياً، وهأنا قد عبرت بالقليل عما نحمله من عظيم الحب والتقدير لهذا الإنسان الرائع الذي نشكر الله تعالى أن عشنا في زمنه، لنفاخر بذلك، وحق لنا أن نلتقط مثل هذه الصورة كلما مررنا به، فهو مصدر فخر واعتزاز.
وفي الختام محبتي وأمنياتي ودعواتي للنوبي الرائع الفنان عمر حلاق في رحلة الاستشفاء، فصحبته إحدى فوائد السفر مع مكي، إنسان رائع كروعة نيلنا، يستحق أن نرفع أكف الدعاء له ليشفيه، لنستمتع بروائعه، وهو أحد الذين وثقوا لمواجعنا، فنأمل أن يكون أول عمل له بعد اكتمال الشفاء هو التوثيق لهذا الفنان القامة.. ما أروعكم أيها النوبيون، ما أنبلكم أيها السودانيون، أحبكم جميعاً.