ظللت منذ السادس من أبريل 2020م حتى سقوط النظام في 11
أبريل أستيقظ فزعاً قبل صلاة الفجر، وذلك لجزعي على المعتصمين الذين غامروا بأن
يحولوا الحراك الثوري المتمثل في المواكب والمظاهرات إلى اعتصام، حتى سقوط
الدكتاتور.
كنت مقيماً في فندق راقٍ في الرياض، وكانت علي أعباء
في مجال عملي الإعلامي يتعلق بمؤتمر دولي، فكنت أبذل جهدي في إنهاء عملي لأعود إلى
التلفزيون، متعلقاً بشاشة “العربية”.
لم يكن يهمني أكل ولا شرب، لأنني كنت بجسدي فقط في
الحيز المكاني الذي أنا فيه، وكنت بروحي أعيش نبض الثورة لحظة بلحظة.
كنت قد راهنت بعض الكيزان أن نظامهم قد انتهى، فكانوا
يحاولون إغاظتي كلما خفت الحراك الثوري، ولم يكن يخفت إلا في خيالهم الحالم، لأن
الله سبحانه وتعالى كان يبعث ما يؤججه، فكانت أرواح شبابنا وقوداً حقيقياً لهذه
الثورة، فكلما سقط شهيد كانت الثورة تزداد اشتعالاً، وتعاطف جموع الشعب يتسع.
كتبت يوم 25 ديسمبر 2018م تحت عنوان “القضية ليست
خبزاً ووقوداً ونقوداً”، وختمت بان القضية “وطنٌ يسعى إلى العدم بخطى
حثيثة، وإذا لم ننقذه أغرقه أهل “الإنقاذ”؛ ليصبح أثراً بعد عين”.
كان الأمر محسوماً بالنسبة إليّ، ولكن كان خوفي من أن
يكون الثمن فادحاً، لهذا كان سبب فزعي مع كل فجر بعد 6 أبريل، لأن تجمع هذا العدد
الكبير من المعتصمين في مكان واحد يجعلهم هدفاً سهلاً للنظام وأذياله، وحدث ما كنت
أخشاه، فكان إطلاق النار يحدث في هذا التوقيت، والشباب صامد صموداً حيّر كل متابع.
بعد انتهاء المؤتمر كان تكريم العاملين من جهة العمل،
فلم أظهر على المسرح بعد أن نودي عليّ كثيراً، وراح الزملاء يبحثون عني، وأنا في
تلك اللحظة أتابع سقوط الطاغية منتشيّاً.
وجدت أن ما توقعته في يوم 5 أبريل تحت عنوان
“فلنجعل 6 أبريل مولد وطن معافى” يتحقق ويصبح واقعاً، نعم كتبت في ذلك
اليوم ” يتقدم الشعب وهو متمسك بشعاراته: سلمية.. سلمية.. حرية.. سلام..
وعدالة إلى الشعار الذي حدد سقف الثورة منذ لحظاتها الأولى، وأغلق اجتهادات الساسة
ومناوراتهم، ونقصد: تسقط بس”.
نعم “يسقط بس” كان شعاراً عبقريّاً أوضح أن
الصفرية التي تحدث عنها البشير قد تحققت، فلا مجال للتفاوض أو المناورة، مهما كان
الثمن، لكن النظام بغبائه ظل يظن أنه باق، حتى طاف البشير البلاد، وسافر إلى خارجها،
كأن لا شيء يحدث أمامه.
وهذا فضل من الله، فقد أعمى أبصارهم، حتى أطل ذلك الذي
كان يوصف بأنه مفكر ومناور وحصيف، وأعني علي عثمان محمد طه، عبر شاشة التلفاز
مهدداً بكتائب الظل وبأولئك المستعدين للتضحية من أجل بقاء النظام، الذي سقط كأنه منسأة
سليمان عليه السلام.
ومع أن فرحتي كانت ناقصة بسبب وجود عسكر النظام في
المجلس الذي أعلن وعلى رأسهم رئيس المجلس، كتبت وكنت واثقاً بأنه لن يستمر تحت
عنوان ” ابنعوف ما تضيع وقتنا”، مع رسالة إليه “من الأفضل لهذا
المجلس ألا يضيع وقت الشعب السوداني الذي يحتاج إلى كل ثانية من أجل إصلاح ما
أفسده نظام الإنقاذ، ومن الأكرم لهم أن يتركوا في النفوس ذكرى طيبة، فلا يمضوا في
طريق من احتجزوه في مكان آمن يصارع الكوابيس جراء ما اقترفت يداه، لأن الشعب
السوداني سينال حقوق كاملة غير منقوصة أراد من أراد وأبى من أبى”.
لقد كان وما زال الرهان على الشعب، وعلى الشباب
“الراكب الراس”، وقد جاءت هذه الثورة محملة بإبداعها من شعر وغناء
وموسيقى وتشكيل وكاريكاتير وتصوير، وغير ذلك من فنون التعبير، مع دور متقدم
للكنداكة حتى أصبحت من أهم أيقونات الثورة بزغرودتها، وبمشاركتها الفاعلة في كل
دقائقها، وتفاعل غير محدود من المغتربين في المهاجر المختلفة، وفي مقدمتهم أجيال
لا تعرف غير أنها تنتمي لتلك البقعة من الأرض.
وما زال التفاؤل ديدننا بأن القادم سيكون أفضل بإذن
الله، مع أن كل حريص على مستقبل هذا البلد يتوقع إيقاعاً أسرع من الحكومة
الانتقالية في كل المسارات، وخصوصاً القصاص من الذين أوصلوا البلاد إلى الوضع الذي
نحن عليه.
كما يتطلع الشعب الصابر إلى تناغم بين المكونين العسكري والمدني، وإلى أداء أفضل من أحزابنا وهي أساس أي نظام ديمقراطي، وإلى ارتقائها إلى مستوى المسؤولية بترك التكالب على المناصب، وتسجيل النقاط، والاتجاه إلى التركيز في برامجها، وفي ترتيب بيتها من الداخل، فهذا الجيل لن يقبل إنصاف الحلول، ولن يسمح بأن تذهب تضحيات إخوانه وأخواته سدى ببيان عسكري.
حمى الله بلادنا من شرور المتربصين بها، ومن نفوسنا
الأمارة بالسوء.
وحق ليوم 6 أبريل أن يزهو، فقد جعله السودانيون يوماً مميزاً وأكسبوه ألقاً ينافس فيه يوم 11 أبريل الذي طوت فيه البلاد صفحات سود، لتشرع في كتابة صفحات جديدة مترعة بالأمل والتفاؤل.