تفاصيل ما حدث
كنتُ أزمعت تحية الذكرى الأولى للثورة عبر سلسلة (أبريليات)، لكن خطاباً مفتوحاً أرسله لي الدكتور محمد علي الجزولي اختطف قلمي، وقد ناقش فيه تعليقي على تشبيهه لنصر أبريل 2019م بانقلاب يونيو (المشؤوم)، ودعوته للجيش لاستلام السلطة.
وأصل الحكاية أن صحيفة (صوت الأمة)، المستقلة إدارياً ولكن وشائجها بالحزب أبلغ من أن تنكر، أجرت معه حواراً رفعته راية عليا (مانشيت) في عددها الصادر يوم الثلاثاء 7 أبريل الجاري، نص المانشيت: (الجزولي يدعو الجيش إلى تصحيح مساره باستعادة الثورة من اليسار المتطرف). وورد في خبر بالأولى أن رئيس حزب دولة القانون الدكتور محمد علي الجزولي أطلق تلك الدعوة في حوار أجرته معه الصحيفة، وقد شبه تحول 11 أبريل 2019م بانقلاب الإنقاذ عام 1989م. فعلقتُ على حائطي بدفتر الصداقة (الفيسبوك) متبرئة لله والوطن من تلك الأفكار التي اعتبرتها ثورة مضادة، وطالبت الصحيفة بالاعتذار عنها أو يعلن حزب الأمة أن ما جاء فيها لا يمثله.
نشر دكتور الجزولي رسالة مفتوحة خاطبني فيها مؤكداً أن صحيفة صوت الأمة هي التي بادرت بطلب محاورته عبر الصحفي سيد جامع، وامتدح ذلك كضوء (في نفق قحت المظلم) بإتاحة مساحة للرأي الآخر يمنعها اليسار المتطرف. وقال إنهم ليسوا ثورة مضادة بل الثورة نفسها بشهادة خروجه من معتقلات الإنقاذ بعد سقوطها. ودافع عن دعوته للجيش لاسترداد السلطة للشعب من اليسار الذين اختطفوها وضاقوا حتى بحلفائهم (فلم يمنحوا اعتصام القيادة شرف أن يصلي به الإمام الصادق المهدي). ويسعون حثيثاً لتفكيك (قوى السودان القديم) لا النظام البائد، مذكراً بمجازرهم للأنصار في أبا وودنوباوي. وقال إن حزب الأمة يظل قائد قوى الوسط السوداني والإمام الصادق المهدي هو (شيخ السياسة السودانية الذي يمكن أن تلتقي عنده الأطراف المتصارعة) واستغرب استنكاري أن تتيح صحيفة الحزب مساحة للرأي الآخر.
أعترفُ بأن خطاب دكتور الجزولي أربك وجهي أكثر من عقلي، وبتّ أبحث عن وجه جديد خلا التكشيرة التي وضعتها آنفاً، ولكن لأكتب ولو بوجه مستبشر المعاني ذاتها لأن الأمر جوهري ولا يتعلق بدرجة حرارة الخطاب أو مدى تهذيبه أو عدوانيته.
وإذ أشكره على حسن الخطاب أقول:
أولاً: الاعتقالات في النظام البائد طالت الجميع حتى بعض زبانيته، فإن كنت تدير الدولة بالحديد والنار وتقمع الرأي الآخر بالنبوت خارج حزبك، فسوف تفعل ذلك داخله ومع مؤيديك وحلفائك. فكثير من الشعبيين ومنهم عراب الانقلاب ذاته سجنوا وبعضهم عذبوا، وكثير من التكفيريين والداعشيين غذتهم الأجهزة الأمنية ثم انقلبت عليهم أحياناً للتأديب وأخرى إذعاناً لموجهات أجنبية. دعنا لا نجعل سجلات كوبر أو شالا وبيوت الأشباح هي الفيصل برغم دلالتها الجزئية، دعنا نحتكم لمدى المعارضة المبدئية للديكتاتورية والانفراد بالسلطة ومدى قبول الديمقراطية وأسس المواطنة وعدم التفرقة على أي أساس كان. هذه النقطة مهمة برأيي في تحديد فسطاط الثورة: معها أم ضدها. فقد اطلعت على رؤى لكم عام 2016م تمتدح فيها زعيم الجماعة الأيديولوجي بأن من آثار حركته جعل الإسلام راية عليا لن تتدلى. وتصريحات في نوفمبر الماضي تعارض حل حزب المؤتمر الوطني وتحذر من “حرب أهلية”، لأن حله يهدف لإقصاء الإسلام من جميع جوانب الدولة. دعني اختلف معك يا دكتور، فالمؤتمر الوطني ليس حزب الإسلام بل حزب الإبادة والخداع والفساد والدمار والاحتيال والاستبداد والإقصاء باسم الإسلام، والإسلام كان ليتلقى طعنة في القلب من تستر أولئك المخادعين خلفه، لولا أن الخطاب الرئيسي في فضحهم وتبيان مجافاتهم للدين جاء من داخل حوش الفكر السياسي الإسلامي في السودان. إن حل ذلك الحزب وتفكيك مقدراته وخطابه يعد إجراء تطهيرياً ضرورياً لجراح الإقصاء والتصفية والإبادة التي ارتكبها الإنقاذيون.
ثانياً: إن اعتباري خطابكم ضمن الثورة المضادة ليس اعتباطاً، فها أنتم تعارضون حل حزب النظام البائد وهو متطلب أساسي لتأمين الثورة، وتربطون ذلك النظام الآثم وحزبه بالإسلام فيما يعني ابتلاعاً كاملاً لخطابهم. ولا يفند تصنيفنا لخطابكم ضمن الثورة المضادة حقيقة معارضتك للإنقاذ ذات مرة وحبسك فيها. فكما ذكرنا، كثيرون من مخططي الانقلاب وجلاوزته المرموقين حبسوا في مسيرة صراعهم الداخلي، وكثير منهم الآن ثورة مضادة، لأن من أسميتهم بالإسلاميين، والإسلام منهم براء، إذ تنازعوا على الحكم مع أخوانهم واشتطوا عجزاً عن قبول أبناء جلدتهم الفكرية، فإن عجزهم عن قبول الآخرين من جماعات الشعب السوداني أبلغ.
ثالثاً: صحيح إن الثورة لا تعني الإقصاء المضاد، ولا استبدال استبداد بآخر، ولكنها تعني تنظيف الحياة العامة من تلك السياسات الإقصائية القاتلة والتحضير لبرء الجراح، ثم استئناف المسيرة على أسس التعايش لا الإقصاء والأحادية، وقهر المعارضين.
رابعاً: لنا مع قوى يسارية ذات وزن إعلامي وفكري أكثر منه شعبي وسياسي خصومات تاريخية تجددت. لكن الإمام الصادق المهدي لم يمنعه اليسار إمامة الصلاة في المنبر الرئيسي بالاعتصام. كان قد أعلن انضمامه للثوار وصلاته الجمعة في الميدان بعد اطلاعه على قرار البشير بفض الاعتصام بالقوة في يوم الأربعاء 10 أبريل، وحينما أتت الجمعة، كان التحول قد تم وزال التهديد، فاتخذ المكتب السياسي لحزب الأمة والذي انعقد في ذلك اليوم قراراً بعدم ذهابه للصلاة هناك لاعتبارات أمنه الشخصي ولتقدير أن الخطر العام على المعتصمين قد زال. صحيح كثير من جماعات اليسار أخرجت إقصائيتها من “سحارة” السنين وسجالاتها، وعنّ لها أن الثورة مناسبة لتقبر قوى السودان (الأصيل) المتجددة والتقدمية قطعاً بأكثر منها. ولكن تلك أمانيهم. وصحيح بعضهم عبر عن رفضه لصلاة الإمام، واحتفى بإمامة الشيخ مهران ماهر الذي اعتلى المنبر طوعاً (في جمعتي 12 و19 أبريل)، وقسراً يوم أعلن الثوار الشيخ المناضل مطر يونس مصلياً في 26 أبريل، وهم لا يدرون أن الإمام الصادق أهون عليهم بما لا يقاس من ذلكم الشيخ الذي كتب على صفحته بالفيسبوك حينها إنه يساند الثوار و”يتبرأ من الشيوعيين والعلمانيين ومن لف لفهم”. أما اليوم فإنه يدعو عليهم نهاراً جهاراً ويؤمّن خلفه المصلون، ففي منبر الجمعة الماضية سأل المولى أن تصير “قحتٌ” أثراً بعد عين!
نحن نعلم ونتابع بشفقة أكثر منه قلق، ذلكم البؤس المبين الذي يجعل أصحابه لا يدركون حتى مصلحتهم ناهيك عن مصلحة الوطن. لكن تلك المناوشات الصبيانية والأحلام الزلوطية لا تجعلنا نخطيء هدفنا، وكما يقول الشاعر محمد طه القدال: عيني في الفيل ما ضله، كلنا ندريه ما نضله.
لا ولن يشغلنا توهان بعض اليساريين الذين ليس بيدهم قوى استراتيجية تذكر، لأن “الفيل” الذي سبب كل هذه المآسي هو ذلك التنظيم الإقصائي الأحادي الذي أمسك بخناق البلاد ثلاثين عاماً، ويجرب الآن كل السبل لإفشال مسيرة الثورة، للقفز من جديد على صدر هذا الشعب الطيب، النبيل، ولكنه صعب المراس.
وسوف أواصل بإذن الله في وصف لماذا استنكرت نشر (صوت الأمة) لخبر الحوار معك بتلك الطريقة الترويجية،
وليبق ما بيننا