أولاً قبل الخوض في موضوع هذا المقال، التمس العذر من أصدقائي وقرائي الذين طلبوا مني بعد آخر مقال كتبته في تشريح مبارك عبد الله الفاضل – الذي كان بعنوان: موسم مارشال المديرية – أن أكف عن ذلك. وامتثلت لطلبهم خاصة أن من بينهم من لا يُرد له طلب، وربطت على قلبي وأنا أرى استغلال المذكور لقيم الثورة، والتي نعترف أنها لم تحقق كل أهدافها الوطنية الغالية، رغم دماء الشهداء التي روت الأرض الطاهرة. فثمة جولة أخرى تنتظر القابضين على الجمر والكاظمين الغيظ، وليس ذلك ببعيد. جولة تكنس ما تبقى من الفلول ومن شايعهم من الانتهازيين المتربصين بها آناء الليل وأطراف النهار.
الأمر الثاني لابد من الإشارة إلى الأسباب التي استند عليها أصدقائي وقرائي في طلبهم، فقد أوردوا لي سببين لا ثالث لهما، لا يكادان يخلوان من منطق. قالوا: أولاً إن المذكور لا يستحق كل هذا العناء والاهتمام، فكل الذي قلته وما سأقوله لاحقاً، أصبح كتاباً مفتوحاً يعلمه القاصي والدنيا، والغريب في الأمر أنه سعيد بهذا الصيت الذي يتوارى الناس منه خجلاً، بدليل سعادته بلقب (البلدوزر)!
ثانياً: قالوا إن لدينا قضية سامية ظللنا نناضل من أجلها ردحاً من الزمن، وعندما تُوجت بهذه الثورة المجيدة، ينبغي علينا السهر على حمايتها، والمضي بها قدماً إلى الأمام حتى تحقق أهدافها السامية. وبالطبع ذلك لن يتأتى إذا ما أهدرنا وقتاً ثميناً في الاستجابة لتخرصات الأبالسة الذين يرتدون أقنعة الزيف والخداع والتنطع.
من قبيل المفارقات وقبل الشروع في كتابة هذا المقال كنت أقرأ حواراً رائعاً في صحيفة الإندبندنت/ عربية مع المفكر العالمي نعوم تشومسكي والذي بلغ من العمر واحداً وتسعين عاماً وما زال يمارس حياته الفكرية عطاءً ممدوداً. تحدث في تلك المقابلة بفذلكة شيقة عن أوضاع العالم في ضوء وباء الكورونا، وما سيؤول إليه الحال بعد انتهائه. وكذلك انتقد خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقال إنه يُذكِّره بخطاب الديكتاتور الألماني أدولف هتلر. واستطرد في المقارنة بقوله (ليس الأمر أنني أشعر بأنه فاشي، فهو ليس كذلك، فالفاشية لديها الكثير من الإيديولوجيا، ولكني أرى فيه مجرد “معتل اجتماعي” مهرج لا يهتم سوى بنفسه) والحقيقة فقد أعجبني هذا الوصف أيما إعجاب نظراً لأنه يتطابق عندي مع حالة المذكور الذي نحن بصدده الآن، ولهذا اقتبسته!
ما إن تناهى خبر رحيل أستاذ الأجيال فاروق أبو عيسى إلى أسماع الناس حتى هرعوا إلى المنابر الاسفيرية وسائر وسائل الإعلام للتعبير عن مشاعرهم الجياشة ومكنون صدورهم حيال الفقد العظيم، وكان من بين هؤلاء الناس مبارك عبد الله الفاضل، لا لكي يعبر عن حزنه ولكن بغرض إفراغ مخزونه في الحقد والحسد والكراهية نحو الجسد المُسجى بالدموع، وبالطبع كل إناء بما فيه ينضح. لم يراع حرمة الموت ولا المآثر النبيلة التي فُطر عليها أهل السودان. علماً بأن فاروقاً ليس في حاجة لأن يشير المذكور إلى ما عَرفه الناس عنه، مناهضاً للاستعمار، ومناضلاً ضد الديكتاتوريات، ومنافحاً عن حقوق الإنسان. وسخر لذلك عمراً من بواكير الصبا إلى حين لفظ أنفاسه الأخيرة.
في واقع الأمر لم تتوقف مآثر الفقيد العظيم في الأطر المذكورة وحدها. فقد كان سمح النفس، يحبه كل من اقترب نحوه ويزجي له من الاحترام مضاعفاً. أحاط نفسه بشبكة اجتماعية تعدت حدود الوطن. فقد كان معطاءً في دفوعاته عن حقوق الإنسان حيثما كانت، الأمر الذي جعله يجلس على سدة الأمانة العامة لاتحاد المحامين العرب بصورة غير مسبوقة. كان جواداً كريماً ذي خلق رفيع. حصَّن نفسه ضد المشاعر السالبة التي جُبل عليها بعض بني البشر، كالغيرة والحسد والكراهية وهي الثلاثية التي دأب مبارك الفاضل على كشف سترها من حين لآخر. مثل ما كتبه في حق الفقيد ونربأ بأنفسنا أن نعيد اقتباسه. لكن هكذا المذكور (لا الفرح يفرحه ولا الزعل يزعله) كما وصفه السيد الصادق المهدي قبل سنوات خلت. أي بعبارة أخرى كائن منزوع المشاعر والأحاسيس الإنسانية!
بتلك الصفات النبيلة مضى فاروق إلى رحاب ربه راضياً مرضياً، وبقي بين الأحياء من تشيعهم اللعنات دوماً. فالمذكور أراد النيل من الفقيد ميتاً بعد أن عجز عن ذلك حياً. والمذكور ظنَّ توهماً أن (جبل الكحل بتهدو المراويد). وفوق هذا وذاك أراد المذكور أن يستلفت أنظار الناس بمأثرته التي يعشقها (خالف تُعرف) فهو من المصابين بداء النرجسية، ويؤمن بأن على المرء أن يكون في دائرة الحدث سلباً كان أم إيجاباً. فلا غرو أن قلت من قبل أن خصومته فاجرة وصداقته حذرة، وما أحسبه إلا كقبيله من العُصبة ذوي البأس المُعجب بهم دوماً، يظنون أن السياسة بسطة في الجسم وقلة في العقل. لا لباقة في الحديث ولا كياسة في التعامل مع الناس، ولذا فهم يتوهمون البقاء في الدنيا والموت في خلدهم نسياً منسياً.
بذلك المنظور لمبارك عبد الله الفاضل قدرة لا تُبارى في صناعة الكراهية. بل هو من دأب على منافسة نفسه بنفسه فيها. لم يكن فاروق أول ضحاياه ولن يكون آخرهم، فقد سبقه كثيرون منهم السيد الصادق المهدي بقول جبَّ ما كان يردده الأبالسة في حقه ويعف اللسان عن ذكره. والسيد الصادق قد تختلف معه سياسياً ولكن لا تستطيع أن تطعن في أدبه وخُلقه، وهذا بالضبط ما ظلَّ يؤرق المذكور. وإلى جانب السيد الصادق المهدي يمكن للمرء أن يحصى عشرات من الذين لحق بهم أذى مبارك دون ذنب جنوه، ومنهم من يمت إليه بصلة قربى. وأكاد أشعر بندم السيد الصادق المهدي الذي كان سبباً في استوزاره في الديمقراطية الثالثة، وعندما أزكمت رائحة فساده الأنوف، اضطر أن يشكِّل له لجنة تقصي، وهي اللجنة التي لم نعرف مداولاتها بسبب انقلاب الجبهة الإسلاموية. ولن يكون ذلك غريباً على من يعلم أن تلك أول وظيفة شغلها المذكور في حياته، وإلا فأكاد اتخيل موقعه في دهاليز الدنيا لولا تستره بالأسرة المهدوية.
قال أبو الطيب المتنبي:
وما الحُسن في وجه الفتى شرفاً له ….. إذا لم يكن في فعله والخلائق
كلنا يعلم ولع مبارك عبد الله الفاضل بالأنظمة العسكرية والديكتاتورية. وكان كثير الإعجاب بالحركة الإسلاموية في فترة الديمقراطية الثالثة، وقد أوردنا قصصاً في كتابنا الموسوم (سقوط الاٌقنعة/ سنوات الأمل والخيبة) كيف أنه كان يتآمر مع جلاوزتها من وراء حجاب للانقضاض على الديمقراطية بانقلاب عسكري. تلك الرغبة الدفينة قام بتلبيتها حينما شارك النظام الديكتاتوري البغيض مرتين، طرد في المرة الأولى شر طرده وبطريقة مهينة، وظل مدافعاً عن النظام في الثانية حتى بعد أن انفضت عنه عصبته. فسيرة مبارك عبد الله الفاضل عبارة عن سلسلة من الفشل والخيبات المتراكمة، ليس في السياسة فحسب وإنما المجال الاجتماعي كذلك، ولعل هذا ما يفسر لماذا نفث سمه الزعاف في سيرة الفقيد. ولماذا استحق وصف نعوم تشومسكي بجدارة “معتل اجتماعي” والذي سبق ذكره!
جعل مبارك عبد الله الفاضل من أحداث الجزيرة أبا وود نوباوي منصة صوب من خلالها سهامه الصدئة نحو فاروق أبو عيسى وكأنه المسؤول عن أوزارهما. دم الأنصار حرام، كما سائر الدماء السودانية. لكن كأن المذكور يتناسى عمداً أن دماء الأنصار التي يتباكى عليها اليوم هو من شارك بأخطائه في سفكها في محاولة الجبهة الوطنية الاستيلاء على السلطة عام 1976 بقيادة العميد محمد نور سعد. فقد كُلف المذكور بشراء السيارات (لواري) لتقوم بنقل المشاركين من ليبيا إلى السودان عبر الصحراء، وكانت هذه الصفقة التي قام بشرائها سبباً في فشل العملية لأن تلك اللواري كانت قديمة وتعطل الكثير منها في الصحراء!
أخيراً وليس آخراً ليت مبارك عبد الله الفاضل اتعظ مما حدث له إبان الثورة واعتصام الثوار في ميدان القيادة، وكلنا يعلم أن ما حدث له يدفع المرء إلى اعتزال الحياة وليس العمل السياسي وحده. لكن فالمذكور يعتقد أن السياسة فهلوة ولهو ولعب يمارسها ترويحاً عن النفس. ولا يجرمنه شنآن ماضٍ لم تُطمس معالمه بعد مشاركة عاطلة مع ذات النظام الديكتاتوري البائد، إلا أنه مع ذلك أراد انتهاز سماحة الثورة، ولهذا حملته قدميه إلى ميدان الاعتصام. وما إن تعرَّف عليه الثوار حتى قاموا بطرده بطريقة مُهينة لا تليق إلا بمن دأب على إهدار كرامته على قارعة الطريق. يومذاك انفجر بعض الثوار غيظاً وكادوا أن ينالوا منه لولا تذكير بعضهم بسلمية الثورة!
فيا أصدقائي وقرائي استميحكم عذراً فقد مسَّ المذكور هرماً من أهرامات السودان بما لا يمكن السكوت عليه. ولن نتوقف حتى يرعوي هذا الدعي!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com