حين وصلتُ الى بيته في ذاك اليوم الحار من صيف ٢٠٠٧، كان جالسا على أرجوحة في بهو الدار الفسيح. هبّ واقفا لملاقاتي فلمعت اسنانه البيضاء خلف ضحكته. لفتتني أناقةُ ملبوسه، كأنما خرج لتوه من أحد أفلام الارستقراطية البريطانية او الفرنسية في القرن السابع عشر. قلتُ في نفسي:” هذا أول عربي اعرفه تناسبُ اناقةُ ثيابه، أناقةَ لغته”، ولا شيء يشبه بيته الفسيح الجميل الأنيق، أكثر من فكره الموسوعي المتعدد المنابع.
سألني ماذا أشرب، فضحكتُ وقلتُ، وهل يُسأل زائر الخرطوم ماذا يشرب؟ فإما شراب الكركدي أو عصير الموز او المانغا واما السجن.. ضحك بصوته الجهوري، ونادى على احدى الفتيات اللواتي يعملن عنده. كانت هي الأخرى جميلة وأنيقة الهندام، وطلب منها أن تأتي لنا بالعصائر والشاي والقهوة. فسألته بدوري:” هل تتعمد الجمال حتى في اختيار العاملات عندك؟”، فأجاب ببيتين من الشعر القديم، ما عدت اذكرهما ولكني اذكر ان معناهما، هو ان الجمال شيء من نعمة الله وان علينا التمتع به، لان الانسان المحاط بالجمال ينسجم أكثر مع الكون وينتج أغزر.
تذكّرت هذه المشاهد، وأنا أقرا أمس الخبر المحزن حو وفاة وزير الخارجية السوداني السابق والمثقف الموسوعي، والدبلوماسي العريق، والرجل الذي عارض السلطة وهو في قلبها، وقال في عز سطوة النظام الإسلامي، ما لم يجرؤ كثيرون على قوله في حينه، بينما اليوم يتبارز الابطال الافتراضيون فوق جثة ذاك النظام.
كنتُ قبل أن التقي د. منصور خالد الذي صار صديقا عزيزا، قد قرأت كل ما كتب، وكل ما قيل عنه. لعلّها من المرات النادرة، التي تمتّعت فيها بكتب عربية الى هذه الدرجة. شربتُ السياسة فيها بقالب أدبي قلّ نظيره، وتعلّمتُ تلابيب السودان، بسحر اللغة والبيان. وفهمتُ خفايا السياسة السودانية والافريقية والأميركية في تلك المنطقة العزيزة علينا، كما لم أفهمها من أحد غيره. كنتُ كلما أقفلتُ كتابا أتمنى لو لم ينته. هو أيد الحركة الجنوبية، وانتقد بشدة النخب السودانية والعربية التي لم تر في التمرد سوى مؤامرة إسرائيلية، بينما الأخطاء المتراكمة من الجبهة الإسلامية صوب الجنوب لا تحصى.
أدرك منصور خالد منذ بدأنا اللقاء، وكنت آنذاك أقدم برنامج” زيارة خاصة” في قناة الجزيرة، أني قرأت تفاصيل ما كتب. فرح للأمر كطفل حصل على لعبة. يقيني أن ذلك ساعدنا كثيرا في اجراء واحد من أجمل الحوارات، وفي ربط صداقة استمرت سنوات طويلة، ذلك ان الكاتب غالبا ما يسعده ان يسمع من قارئه أبرز ما كتب، لان الكتابة بلا قارئ تتحول الى سحابة تنتهي مطرا، فلا يبقى لها صدى ولا أثر.
كتابه” اهوال الحرب، قصة بلدين” كان ممنوعا في الخرطوم، لان منصور خالد كان قد شن حملة شعواء على النظام الذي أصبح لاحقا أحد أبرز مستشاريه. هو كان في الحركة الشعبية بقيادة أبرز متمردي الجنوب جونغ قرنق (الذي قتل في طائرته) بعد ان كان وزيرا للخارجية، وبقي حتى الرمق الأخير يقول ان قرنق كان وحدويا وليس تقسيميا وان الحركة الإسلامية أخطأت بحق الجنوب.
لم يعرف سوداني أميركا كما عرفها منصور خالد. وحين تسأله عن تآمر أميركي، كان يضحك ويقول:” انا لست من الذين يبحثون دوما عن مؤامرة، فاهتمامات اميركا بالسودان متعددة الأسباب”. لعل هذا الجانب الأميركي في شخصيته أزعج كثيرين، خصوصا انه كان صديقا لجورج بوش الأب، لكن الأكيد ان النخب الفكرية الاميركية التي اهتمت بالسودان نهلت من معينه كما ينهل أي شخص آخر مهتم بهذا البلد العربي الافريقي الشاسع الأصيل. كان يحاور الاميركيين من موقع الند للند والصديق للصديق وليس من منطق التابع والمتبوع، فهو كان يفاخر بحضارة بلاده العريقة وبأصالة الأرض وجذور التاريخ.
حين بحثت عن سر متانة لغة منصور خالد وجمال صوره وسلاسة أسلوبه وغزارة عباراته ومفرداته، وجدت أنه متأثر بالموروث الصوفي في عائلته، وقارئ نهم للشعر الكلاسيكي كما القرآن الكريم والأحاديث وآخر معجم إنكليزي. ربما لذلك ناهض منذ شبابه تيار الاخوان المسلمين والشيوعيين وأسس مع رفاقه “جماعة المستقلين”، وحين تم حل الشيوعين كتب مدافعا عنهم. هو هكذا كان، يسبح عكس التيار حين يرى ان الحق هو في الاتجاه الآخر.
قلتُ له: كيف لصوفيّ المنشأ ان يحب متع الحياة من الأدب والشعر والنساء والسفر ويبقى عازبا سرمديا، ويُعجب بأميركا والغرب وفي الوقت نفسه بالصين وروسيا وليس عندك خصم حاليا الا الجبهة الاسلامية؟ نفض وريقة شجرة سقطت على كتفه بالإبهام والسبابة، وقال بلهجة اليقين: ” يا أخي سامي، ثمة شيء اسمه جنون العظمة، فيتصور البعض انه يستطيع ان يجعل هذا الكون مسلما، وانه قادر على هزيمة اميركا وروسيا واحتلال السعودية وانه يستطيع ان يؤيد غزوة صدام حسين لبلد شقيق هو الكويت، ويتخيل انه يستطيع اخضاع الجنوب بحد السيف، وانه سينشر الثورة الإسلامية ويصدّرها … قل لي بربك، كيف تؤيده؟”
أجبته:” لكنك تؤيد من فعل كل ذلك وانت مستشاره”، فسارع الى الإجابة:” اسمع يا اخي أولا ان جزء من مشروع جديد للسودان يتشارك فيه الشمال والجنوب، ولو فشل فلن يبقى شمال وجنوب، والنظام الحالي يدرك انه ما لم يحدث تحولات جذرية في الفكر أولا ثم في الممارسة، فلن يستمر مهما كابر، وانا أقول لك هذا الكلام من قلب الخرطوم، تذكّر كلامي”
تذكرتُ تماما كلامه، وتذكرت كل تلك اللوحات والمنحوتات الرائعة على حيطان منزله، وتذكرت مكتبته العامرة، وحزنت عليه. سوف اعيد قراءة كتبه الكثيرة في مكتبتي لأستعيد تلك المتعة الهائلة التي اجتاحتني وانا اسافر عبر صفحاتها الى سوداننا العزيز ومنه الى افريقيا الغالية، لعلّ القراءة تُبقي هذا الصديق السوداني الأنيق والعريق صورة زاهية دائما في القلب والوجدان. فبرحيله يخسر السودان أحد أبرز وجوهه الثقافية والفكرية النادرة. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.