بدأت هذه التجربة في القارة السمراء منذ خروج المستعمر منها في ستينيات القرن الماضي
تقرير: إسماعيل محمد علي
ساد القارة الأفريقية في فترة ما بعد الاستعمار نموذجان للحكم ولا يزالان قائمين في عدد من تلك الدول هما الحكم السلطوي للحزب الواحد، والدكتاتورية العسكرية، وبحسب مراقبين في الشأن الأفريقي، فإن هاتين التجربتين نتاج توجهات وممارسات سلبية لتجربة الديمقراطية التي حاول أن يرسخها الاستعمار في الدول الأفريقية لأنها كانت تحمل عوامل الفشل في داخلها، لذلك لم تنجح في تنظيم السلوك السياسي لشعوبها، أو تحقيق الممارسة السياسية الرشيدة لحكامها.
وأشار هؤلاء أيضاً إلى أن الأحزاب الأفريقية، ولا سيما الجيل الأول منها الذي أفرزته حركات التحرر الوطني، صنفت تحت مسمى الحزب الواحد المتسلط، إذ لم تتبنّ أيدولوجيات معينة، بل كانت استنساخاً للنمط الاستعماري في صورة أفريقية، فضلاً عن أنها تجربة مستوردة من العالم الغربي ونظمه، تعبر عن فلسفات وقيم وآليات تحكمها لا تناسب خصوصية الأفريقيين في تكويناتهم النفسية والثقافية والاجتماعية، لافتين إلى أن تجربة الحزب الواحد في أفريقيا كانت تجسيداً لديمقراطية الهيمنة والسيطرة، وتكريس الفساد والاستبداد السياسي، وسياسات القمع والإكراه المادي التي جعلت منها إقطاعيات تتناسخ على حساب مفاهيم العدالة والحرية والمساواة.
القبلية والأثنية
وحول مسيرة وتجربة الحزب الواحد في أفريقيا، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم الغيني الجنسية الدكتور كامارا عباس في حديثه إلى “اندبندنت عربية” “بدأت تجربة الحزب الواحد في أفريقيا منذ خروج المستعمر من القارة الأفريقية في ستينيات القرن الماضي، وقد قام المستعمر قبل مغادرته القارة السمراء بتجهيز كوادر حزبية ونقابية لاستلام السلطة، لكن واجهتها صعوبات وتحديات كثيرة سياسية وإدارية واقتصادية، ما كانت سبباً رئيساً لحدوث انقلابات عسكرية وقيام دولة الحزب الواحد، إضافة إلى العوامل الأثنية والقبلية، ولجأ هؤلاء إلى توسيع قاعدتهم الجماهيرية من مجموعات أثنية وقبلية يغلب عليها الجهل والفقر، واستغلال حاجتهم للمال للدفاع عن السلطة”.
ولفت إلى أن غالبية جماهير الحزب الواحد في أفريقيا مصطنعة وليس لديها فهم أو وعي ولا انتماء للوطن، بل إن ولاءها للقبيلة والحزب فقط، والدولة عمّقت هذا المفهوم من خلال اعتماد سياسة المحاصصة سواء في الوظائف السياسية أو الغنائم والمال وغيرها.
وأكد كمارا أن مجمل هذه العوامل كانت السبب وراء ظهور الحزب الواحد في كثير من البلدان الأفريقية خصوصاً ذات التوجه الاشتراكي مثل مالي وكينيا وغينيا والكونغو الديمقراطي، حيث لم تكن الديمقراطية متاحة لعوامل كثيرة، مبيناً أن هذا الوضع استمر حتى عام 1990، وهي بداية التعددية الحزبية والديمقراطية في أفريقيا، عندما ربط الرئيس الأميركي السابق جورج بوش بعد انتهاء الحرب الباردة وانتصار بلاده على الاتحاد السوفياتي، المساعدات الأميركية للبلدان الأفريقية أو ما يسمى دول العالم الثالث بانتهاج الحكم الديمقراطي ومراعاة حقوق الإنسان، وكذلك فعلت الدول الأوروبية، بمعنى أن من ليس معنا فهو ضدنا.
أضاف “هذا التوجه في نظري قنّن مسألة الملكية الديمقراطية في أفريقيا، وأصبحت هناك ديمقراطية نسبية وليست كاملة، وذلك من أجل الحصول على المساعدات الأميركية والأوروبية، إذ إن معظم الحكومات الأفريقية تعتمد على هذه المساعدات، ولذلك برزت من جديد ظاهرة الحزب الحاكم المتسلط، وهناك مثل للرئيس الغابوني الحاج عمر بانغو يقول إذا لم تفُز في الانتخابات فإذن أنت غبي، لأنه لديك المال والسلطة، فأصبحت الديمقراطية صورية فقط، والأميركيون والأوربيون يعرفون كل هذه الحيل لكنهم يتغاضون عنها لأن لديهم مصالح اقتصادية في هذه الدول، وفي النهاية هي مجرد لعبة سياسية، فهم يقولون شيئاً ولا يؤمنون به”.
صراع وجمود
لكن ما هي أبرز سمات وخصائص نظام الحزب الواحد في أفريقيا؟، يجيب الباحث في الشؤون الأفريقية محمد المختار “تتمثل أهم هذه السمات والخصائص في عدم المنهجية، إذ إن معظم التجارب التي اتبعتها دول القارة لم تكن تمتلك خطة واضحة المعالم للحكم، ولم يكن لها محتوى فكري يتعلق بالتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية، بل كرست أهدافها وبرامجها في تحقيق المكاسب الحزبية والقبلية.
كما اتسم الحزب الواحد بجمود المؤسسة، فانعدمت لديه قابلية النمو والحيوية، فضلاً عن عدم وجود منهجية شاملة لممارسة الحكم والسياسة والقيادة والإدارة، ما أدى ليس فقط إلى فشل الحزب في تنمية موارد الدولة وإدارتها، بل في إدارة الحزب لنفسه وتنمية قدراته المؤسسية والتنظيمية، وتطوير ممارساته السياسية.
كذلك من تلك السمات أن الطبيعة التسلطية للحزب الواحد ولّدت داخله وخارجه تنافساً حاداً بين الشخصيات النافذة، وصراعاً قوياً على منصب القيادة أدت في بعض الحالات إلى اقصاء بعض المنافسين أو تصفيتهم كما حدث في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وكينيا ودول غرب أفريقيا، وربما تجاوز الأمر لإعادة صياغة الجوانب التنظيمية للوائح ونظم الحزب قانونياً لتكريس الفردية وتبرير التسلط.
وأشار المختار إلى أنه في الغالب يتم تركيز الصلاحيات المطلقة في ظل الحزب الواحد في يد الزعامات الحزبية، ما ساعد على عدم الشفافية وإمكانية الرقابة والمساءلة، الأمر الذي سهّل عملية استغلال الحزب وتسخير إمكاناته وتوظيفها لصالح القيادة وحاشيتها المقربين، مشيراً إلى أنه لتحقيق النفوذ والهيمنة وتوفير الحماية كان تسييس القبيلة وتسليحها تحت مظلة اللافتات الحزبية.
استنساخ للمستعمر
وتابع المختار “كثيراً ما أدى الصراع بين التحالفات ومراكز القوى داخل الحزب الواحد، والنفوذ القبلي في البلاد إلى العديد من الانقسامات، كما دفعت سياسة الهيمنة والتسلط بعض الأنظمة التي كانت موالية للغرب للتخلص من التعددية الحزبية منعاً للتنافس، فأخذت نموذج الحزب الواحد مثل نظام باندا في ملاوي، وموبوتو في زائير، فضلاً عن عدم الاحتراف بحق الآخر في السلطة والتخلص منه، فالوسيلة مبررة لتحقيق هذه الغاية وهي شراء الصوت المعارض أو إسكاته”.
أضاف “ما كان لتجربة حملت أسباب فشلها في داخلها أن تنجح، ومن أسباب فشل تجربة الحزب الواحد أنها نشأت وليدة ظروف استثنائية قهرية طارئة على البيئة الأفريقية، ولم تكن نتاجاً لتطور طبيعي لنظم الحكم والسياسة فيها، بجانب كونها استنساخاً للنمط الاستعماري في صورة أفريقية، وتجربة مستوردة من العالم الغربي ونظمه، تعبّر عن فلسفات وقيم وآليات تحكمها لا تناسب خصوصية الأفريقيين في تكويناتهم النفسية والثقافية والاجتماعية”، بالإضافة إلى ذلك، فإن تجربة الحزب الواحد في أفريقيا كانت تجسيداً لديمقراطية الهيمنة والسيطرة، وتكريس الفساد والاستبداد السياسي، وسياسات القمع والإكراه المادي التي جعلت منها إقطاعيات تتناسخ على حساب مفاهيم العدالة والحرية والمساواة وأدوات لمصادرتها بمنع التعبير والمشاركة، وتصفية مكونات المجتمع المدني أو دمجها في مؤسسات الدولة، فضلاً عن غياب المنهجية والخبرة في إدارة شؤون البلاد، إذ لم يكن لنظام الحزب الواحد أي محتوى فكري وأيديولوجي شامل وفق رؤية واضحة وأهداف محددة وبرامج تكفل الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية وتحقيق العدالة الاجتماعية، والوحدة والتنمية الشاملة للمجتمعات في أفريقيا.
واقع مخيب
تعد تونس الدولة الأفريقية الأولى التي تعتمد نظام حكم الحزب الواحد، وذلك بعد استقلالها عام 1956، ثم تلتها غانا عام 1957، كأول دولة في أفريقيا جنوب الصحراء، وفي عام 1976 كانت 35 دولة أفريقية تتخذ هذا الشكل للحكم من أصل 49 دولة حينذاك.
ووفقاً للباحث السياسي في الشؤون الأفريقية محمد البشير موسى، فإنه حتى الدول التي اتخذت منحى التعددية الحزبية كانت الأحزاب الأخرى فيها عبارة عن صور أو نسخ متكررة، من الحزب الحاكم لا تستطيع القيام بأي عمل يتعارض مع سياسة الحزب الحاكم، وإلا تم إقصاؤها في حال قيامها بالمعارضة كما كان الحال في تونس وتشاد ورواندا ونيجريا وزامبيا.
وتابع “خطوة حكم الحزب الواحد، وإن كان بعضهم يرى أنها حافظت على وحدة الدولة القومية ونجحت في بناء الوحدة الوطنية وسيادة القانون على أراضي الدولة الحديثة، إلا أنها لم تحقق الأهداف المرجوة، لأن الواقع في كثير من الدول الأفريقية كان مخيباً للآمال، فبعض الدول بدأ معركته لبناء الدولة الواحدة مع الاستقلال، فاندلعت الثورات العسكرية أو الانقلابات العسكرية للحيلولة دون ذلك، بإيعاز من الدولة المستعمرة لتكوين دولة تفتقد لمقومات الدولة القوية، بناء على رؤى غربية كما حدث في السودان منذ وصول القوات البريطانية وفرض سياسة المناطق المغلقة، أو كما في الكونغو الديمقراطية التي بدأت قبل الاستقلال تعاني أزمة بناء الدولة الواحدة، التي تجمع بين العرقيات والقوميات المختلفة بسبب تدخل خارجي سافر منذ الوهلة الأولى لاستقلالها، حتى أودت هذه الحروب والنزاعات العسكرية والثورات في هذا البلد إلى مقتل أكثر من مليون نسمة، ومقتل معظم القادة الوحدويين من أمثال باتريس لومومبا”.