لا أظن أن أحداً ينسى الأماكن التي صام فيها, وهل كان الفصل صيفاً أم شتاء. وبماذا أفطر ومع من أفطر. وهو قد ينسى بقية أيام العام باستثناء أيام قليلة تباغته فيها الحياة, كما تفعل بإحدى مفاجآتها السارة أو المحزنة.
الايام العادية تمضي تباعاً طوال العام. لا يكاد الإنسان يحس بمرورها. كأن الزمن نهر سرمدي.
ولكن يوم الصائم – وهذه عندي من حِكم الصوم – يتلّفت قطرة قطرة. الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها, الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام, إنه ( كم ) يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس.
يختلط جوعه وظمأُه – خاصة إذا كان الوقت صيفاً حاراً – مع كل دقيقة تمر مكوناً عجينة من المكابدة والسعادة. فإذا انقضى اليوم يحس الصائم أنه قطع شوطاً مهمّاً في رحلة حياته. وإذا انقضى الشهر بطوله, يشعر حقاً أنه يودع ضيفاً عزيزاً طيّب الصحبة ولكنه عسير المراس.
إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر, أول عهدي بالصيام, كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء, الجدود والآباء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة.
لم يكن الدهر قد بدأ بعدُ يقضم من جسمها كما يقضم الفأر من كسرة الخبز.
كانت دُرنا تقوم على هيئة مربع, وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية. فكنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة.
نتولى نحن الصبية أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها, وقبيل المغيب نجيء بسفر الطعام من البيوت, ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة – غير بعيد منا – ( الله أكبر) معلناً نهاية اليوم. وكنت في تلك الأيام, قبل أن يقسو القلب ويتبلد الشعور, أحس أن ذلك النداء موجًه لي وحدي, كأنه يبلغني تحية من أفاق عليا, أنني انتصرت على نفسي
أذكر جيداً طعم التمر الرطب,وهو أول ما نفطر به, حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب. وكانت لنا نخلات نميزها ونعنى بها. لها ثمر شديد الحلاوة, تخرجه باكراً. كانوا لا يبيعون ثمارها ولكنهم يدخرونه لمثل تلك المواسم. وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك.
وأذكر مذاق الماء الذي يُصفّى ويبرد في الأزيار أو في القِرَب, خاصة ماء القرب, الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ, وشراب (الابري) وهو يصنع من خبز يكون رقيقاً جداً أرق من الورق. تضاف إليه توابل, وينقع في الماء ويحلًى بالسكر.
ومذاق ( الحلو مر) وهو أيضاً من عجين مخلوط بتوابل خاصة. وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة. هذان الشرابان لا يوجدان إلاّ في السودان, وهما مرتبطان برمضان. ولهما رائحة عبقة فوّاحة. تلك وروائح أخرى, كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان, كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان. كان طعم تلك الأيام حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل.
لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا. لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة, كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه, وغالباً ما ينتظر السحور من دون عشاء.
نصلي ونفطر على مهل, ونقوم نحن الصبية فنحضر الشاي والقهوة ( الجبنة ). وكان يسمح لنا بشرب القهوة فقط في رمضان,فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم, ولم يكن ذلك نوعاً من الحظر, ولكن من قبيل الإقتصاد في النفقة, فقد كان البن أغلى من الشاي. يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم.
ثم يأخذون في الحديث ونحن الصبية نسمع ولا نتكلم, ويا له من حديث, كأن رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة. كنت أستمع إليهم وكأني أشرب ماء القرب البارد وآكل التمر الرطب.
لا أعلم كم كان ( معدل الدخل) عندنا تلك الأيام. ولم أكن أعلم شيئاً عن الحالة الاقتصادية في القطر, ولم يكن يهمني من الذي يحكم البلد. كنت أعلم أن الإنجليز موجودون في الخرطوم, وأحياناً يمر بنا واحد منهم, كما يمر طائر غريب في السماء.
لكننا كنا بمعزل عن كل ذلك, نحسّ بالعزّة والمتعة والطمأنينة والثراء.
كنت أعلم أن ذلك الإحساس حق, من الطريقة التي يمشي بها آبائي وأجدادي, لا يمشون مختالين, ولكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي. الرؤوس,لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم.
ولعل الإنجليز خرجوا آخر الأمر لأنهم ضاقوا بإحساس الحرية ذاك لدى السودانيين, كأنهم لم يفهموا أو رفضوا أن يفهموا أنهم أمة مهزومة مستعمرة.
الإحساس بالمذلّة والهوان حدث لهم بعد ذلك, على أيدي بعض أبنائهم الذين انتزعوا الحكم من الذين ورثوه عن الإنجليز, ومنهم من كان صبياً مثلي في ذلك الزمان الأغر, وجلس على بقعة رمل كما جلست, مع آبائه وأجداده في إفطار شهر رمضان.
كنا حقاً سواسية كأسنان المشط. ولا بد أنه ذاق المذاقات نفسها وشمّ الروائح نفسها, واستمع مثلي إلى أحاديث آبائه وأجداده, حديثاً مليئاً بالمحبة والحكمة والطمأنينة. فماذا أصابنا بعد ذلك, أم ماذا أصاب الزمان..