في ظل ما اتخذته لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م من قرارات الأسبوع الماضي، وما أعلن عنه في المؤتمر الصحفي الذي عقدته اللجنة يوم الجمعة العاشر من أبريل 2020م تباينت ردود الأفعال حول الحدث.
ففي الوقت
الذي رأت فيه قوى الثورة أنها خطوة إيجابية في طريق تحقيق شعارات الثورة، وإن جاءت
متأخرة، فإن منسوبي النظام البائد، ومن طالتهم القرارات من مسؤولي العهد البائد رأوا
ما حدث خطوة غير موفقة ومخالفة للقوانين؛ بالنظر إليها على أنها مصادرة لأموال
خاصة، ويشكّل تعديّاً وتغولاً على أموال أشخاص وهيئات وشركات ومؤسسات ومنظمات
يحميها القانون؛ معلنين رفضهم تلك القرارات باعتبارها مصادرات لملكيات خاصة، وبينهم
من هدد برفع الأمر للقضاء لإيقاف إجراءات ما أسموه بالمصادرات.
في الوقت ذاته،
سارع وزير العدل الدكتور نصر الدين عبد الباري بإطلاق تغريدة بأن هذه الأموال ليست
أموالاً أو ملكية خاصة، وأن قانون التفكيك لا يتحدث عن مصادرة الأموال، وإنما
استردادها؛ مضيفاً: “نحن نسترد أموالاً مملوكة لنا كشعب ولا نصادر ملكية خاصة
ويسندنا في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والتي بنينا عليها بعض
أحكام قانون تفكيك التمكين”.
بالرجوع إلى الوثيقة الدستورية نجد أن من ضمن مهام
الفترة الانتقالية ما نصت عليه المادة(8) الفقرة (15) “تفكيك بنية نظام
الثلاثين من يونيو 1989م، وبناء دولة القانون والمؤسسات”، واستنادا إلى نص
هذه المادة، وعملاً بسلطات مجلسي السيادة والوزراء المنصوص عليها في المادة (25)
الفقرة (3) من الوثيقة الدستورية، أصدر الاجتماع المشترك للمجلسين قانون تفكيك نظام
الإنقاذ لسنة 2019م.
نصّ القانون المذكور على إنشاء اللجنة الخاصة بتفكيك
النظام، وطريقة اتخاذها لقرارتها مع تفصيل لسلطاتها وصلاحياتها في تفكيك نظام
الثلاثين من يونيو1989م.
لقد سبق أن وقع السودان على اتفاقيه الأمم المتحدة
لمكافحة الفساد في 14 يناير 2005م، وصادق عليها مجلس الوزراء في ظل النظام البائد
بتاريخ 29 مايو 2014م.
وعقب جلسة المصادقة مباشرة، صرح الناطق الرسمي باسم
مجلس الوزراء حينها الأستاذ عمر محمد صالح أن الاتفاقية تتوافق مع القوانين
السودانية والمعتقدات الدينية، وأن الاتفاقية تنص على قيام الدول الأعضاء بإنشاء
هيئات مستقلة تتولى مهام منع الفساد بوسائل محددة حسب الاتفاقية، منها تنفيذ
السياسات التي نصّت عليها الاتفاقية، ومنح الهيئة الاستقلالية التامة.
وبالمصادقة على هذه الاتفاقية الأممية، أصبح للسودان
ملزماً بتنفيذها، والمساهمة في تحقيق أهدافها، التي تتضمن محاربة الفساد التي تعد إحدى
الأولويات، إذ إنها تشكّل تهديداً حقيقيّاً للتنمية، وأحد العناصر الرئيسة في
التدهور الاقتصادي في البلدان التي ينتشر فيها الفساد.
إن الفساد- كما هو معلوم، وفيما أشارت اليه الاتفاقية-
يشكّل مخاطر على استقرار المجتمعات، وأمنها، ويقوّض المؤسسات الديمقراطية، والقيم
الأخلاقية، والعدالة، وسيادة حكم القانون، إضافة إلى الآثار المجتمعية الضارة بما
في ذلك تشويه للأسواق، وتدهور في نوعية الحياة، وازدهار الجريمة المنظمة والإرهاب.
ويعدّ الفساد أحد أكبر المهددات الاقتصادية للدول
النامية، ويقوّض قدرة الحكومة على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، كما يساهم في
التحيز لفئة معينة، وظلم السواد الأعظم من المواطنين، كما يثبط ويقف عائقاً أمام
جذب الاستثمارات والمعونات الأجنبية؛ مما ينعكس على حياة المواطنين، ويضرّ بالفقراء
بشكل مباشر.
لقد رسّخت الاتفاقية الأممية لمبادئ أساسية في إطار
تقوية التعاون بين الدول؛ بغية كشف وفضح الفساد، ورد العائدات لمصلحة الدولة
المعنية، وتضييق الخناق على المسؤولين الفاسدين في محاولاتهم؛ لإخفاء مكاسبهم غير
المشروعة، مما يساهم في دعم الموارد اللازمة لإعمار المجتمعات، وإصلاحها خصوصاً في
الدول النامية.
وبجانب
اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، وقع السودان على الاتفاقية العربية لمكافحة
الفساد التي تم إبرامها في 21 ديسمبر2010م، وتمت المصادقة عليها بواسطة حكومة
السودان في 23 أكتوبر2012م ودخلت الاتفاقية حيز النفاذ في 9 يونيو2013م، كما وقع
السودان على اتفاقية الاتحاد الافريقي لمنع الفساد ومكافحته بتاريخ 3 أغسطس2008م، وإن
لم يصادق عليها.
إن المرجعيات القانونية المشار إليها ممثلة في اتفاقية
الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والاتفاقية العربية لمكافحة الفساد ترسّخان مبادئ
أساسية، تتمثل في ترسيخ وتقوية التعاون بين الدول على منع الفساد، والكشف عنه، وتضييق
السبل على المسؤولين الفاسدين من إخفاء مكاسبهم غير المشروعة من الثروات الوطنية
المنهوبة، وردّ العائدات لإعمار المجتمعات واصلاحها.
لقد صدر
القانون الوطني ممثلاً في قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو1989م في ذات طريق
الاتفاقيات المشار إليها؛ وهذا ما يقفل الباب أمام أي احتجاج قانوني بدعوى أن ما
تقوم به لجنة تفكيك التمكين تعدُّ مصادرةً لأموال خاصة، إذ إن التكييف القانوني الصحيح
لهذه الأموال أنها أموال وطنية منهوبة يجب استردادها لمصلحة الوطن والمواطنين.
وعليه، فإنه لا غبار على أعمال اللجنة، ما دام أنها تنطلق
في أعمالها في إطار الالتزام بالاتفاقيات الدولية والإقليمية، وبموجب تشريعي وطني يأخذ
سنده من الدستور؛ لذا ليس أمام المتهمين بالفساد غير الذهاب إلى المحاكم، وإثبات شرعية
الأموال المستردة، ونظافتها من الفساد بأشكاله المختلفة.
ومن جانب آخر، يصبح من الواجب على لجنة التمكين قيل
إصدار قراراتها التحري بدقة حول مصادر تلك الأموال، والأخذ في الحسبان كل الجوانب
القانونية، وسدّ الثغرات تفاديّاً لأية طعون يمكن أن تشكك في أعمال اللجنة.
السبت 26 أبريل 2020م