لم أصدق أن ضيف برنامج ابننا الإعلامي المميز راشد نبأ على س 24 هو السفير عمر الشيخ إلا بعد كتابة اسمه على الشريط. ما شاء الله تبارك الله. لم أره منذ غادرنا سوح جامعة الخرطوم التي جمعتنا في الستينات الأولى. ولا اذكر أنني لقيته إلا لماما ومنذ عقود.
جاء عمر للحديث عن قرار الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس مجلس الوزراء، الطلب من الأمم المتحدة مساعدتنا لاجتياز الفترة الانتقالية. وكان عمر مؤيداً للقرار في مقابل الدكتور لؤي رئيس حزب المسار الوطني. وكان عمر عند توقعي منه. لم يحمل إلى البرنامج خبرته الدبلوماسية التي شملت ضمن ما شملت عمله نائباً لمدير بعثة الأمم المتحدة بالصحراء الغربية فحسب، بل لم يسمح لدكتور لؤي تشتيت الكورة عن المرمي الرئيس. جاء بأوراقه جميعاً. ولم يأذن للؤي أن يشرق أو يغرب مما درج عليه كثير من المتناقشين عندنا. فكان يرده إلى طبيعة الفصل السادس الأريحية من دستور الأمم المتحدة نصاً وروحاً مقارنة بالفصل السابع العقوبي الذي ورثناه من دولة الإنقاذ. وكان يهش لؤي عن خروقه للنقاش من حر تجربته بأدب دبلوماسي جم. فلم يأذن له بالنعيق بوطنيته التي قال إنها تأبى له أن يقبل بوجود للأمم المتحدة في الوطن. وهلمجرا.
يسعدني أن أرى في من مثل عمري ينهض بدور منتظر في من مثل عمرنا. فيخرج على شبابنا لا بالمعرفة التي هي زينة عمر بل بالصرامة المهذبة التي ترده عن هوى النفس. ولست أرى مثل عزيمة عمر عند كثير من جيلي. ففيهم خفة في المعرفة وميل لنفاق من هم لهم بمثابة قدوة. وربما ساقتهم الأولى للثانية. والعكس صحيح.
استبشرت بحضور لؤي للقاء. وأعجبني أنه شاب يتزعم حزباً. وبدا لي في البداية أنه يصدر في معارضته لقرار رئيس الوزراء عن وطنية لا غبار عليها مع أنني لم اتفق معه. ولكن ضبط السفير عمر للمناقشة أخرج ما بَطَن من لؤي من وراء معارضته للقرار. فلما أغلق السفير أبواب الهرج جميعاً عليه حتى أخرج زفره المعارض كله: صفوف البنزين، الغاز، الخبز. وهلمجرا بغير مناسبة. وانتهى إلى خلاصة غير مفاجئة وهي أن يستقيل الدكتور حمدوك أو يقال. قوم يا عاطل. تعال الأناقشك.
تنشط أقلام إسلامية مخلصة وزائفة مغرضة في معارضة قرار رئيس الوزراء باسم الوطنية. وسيصعب بالطبع على أكثرهم طهراً تأويل صبرهم على خضوع الوطن للفصل السابع الشقي من الأمم المتحدة. فاحتمل نقص الوطنية ولم تطرأ له إلا بقبول النظام الجديد لفصلها السادس الرحيم. وتذكرت حكاية دالة من أيام عملي الميداني بين الرباطاب في 1984 على فساد وقفتهم الشماء اليوم للوطنية في وجه “تطفل” الأمم المتحدة بعد عوس نظامهم في تلك الوطنية عوساً مشهودا:
كنت في مأتم بقرية عتمور بالرباطاب. وتحلقنا حول أحد فصحائهم يحدثنا عن مخاطر الانفجار السكاني في العالم. واستلمنا الراجل جد. وجاء فصيح آخر وجلس صامتاً في طرف حلقتنا. وما تصفحت وجهه حتى تيقنت أنه لن يصمت طويلاً. فوجه الفصيح الرباطابي يختلج بعلامات معروفة متى استنكر أمراً استفزه وعزم على إزالة هذا المنكر بلسانه. فإن نظرت له وجدته “متحربس كده للنضم”. وهذا فن في “التفاصح” معروف عندهم ب” الملاكدة” أي دفع الخصم بكوع الكلمات. وسرعان ما قال الفصيح المٌستفز للفصيح المٌستلمنا:
-والله يا فلان المتلي ومتلك يحرم عليهم الكلام في الانفجار السكاني.
وسألت من كان جنبي عن سبب تخصيص نفسه والرجل الذي أمتعنا بالحديث عن الانفجار السكاني عن الخوض في الموضوع. فقال لي الرجل: فلا وفلان ديل مزواجين وعندهم طائفة من الأبناء والبنات.
وفهمت. دحين يا إسلاميينا لربما لم تكونوا أفضل من يحدثنا عن الانفجار السكاني. أو ما شئت.
IbrahimA@missouri.edu