رحل، قبل أيام، المفكر والسياسي السوداني الكبير منصور خالد. ومنصور الذي عاش حياة عريضة بمعنى الكلمة عبر عمره المديد؛ عاش، كذلك، شاهداً أمينا على حيوات مختلفة، اختلف فيها على جامعات أوربا وأمريكا المرموقة(ماجستير من جامعة بنسلفانيا ــ دكتوراه جامعة السوربون) وتقلد فيها مناصب سياسية مهمة في السودان (وزيراً للشباب والرياضة ثم للتربية ثم وزيراً للخارجية في عقد السبعينات حيث أسس بنيات استراتيجية عميقة في تلك الوزارات رغم قصر الفترة) كما تقلد قبل ذلك وبعده، مناصب رفيعة في الأمم المتحدة (عمل ممثلاً للمدير العام لليونسكو) ودرس في العديد من الجامعات مثل جامعة كولورادو بالولايات المتحدة. في كل تلك الحياة وتقلباتها، كان منصور شاهداً حيا على ايقاع القرن العشرين. فمن ناحية؛ بدا ابن مدينة أمدرمان العريقة، أكثر حظاً من غيره في تلقي تعليم ثانوي وجامعي مرموق في جامعة الخرطوم، ومن ناحية ثانية، كانت نشأته في أسرة اشتهرت بالعلم والتصوف وحب المعرفة؛ أهلته ليكون مقبلاً على تلك الحياة التي نبغ في جوانب مختلفة منها، وعكس للآخرين صورةً للمثقف الذي يتجاوز بمعرفته حدود الآخرين، ليصبح قادراً بفكره الوقاد وعقله الرصين وثقافته الواسعة؛ على رؤية الحقائق المجردة في الواقع والحياة والتاريخ، ويبني آرائه وأفكاره على ما هداه وعيه بعيداَ عن الاستقطابات التي وقعت فيها نماذج التفكير السوداني الحزبي والنخبوي خلال الخمسينات والسيتنات والسبعينات من القرن الماضي.
ومنصور الذي توفر على معرفة عميقة ونادرة بهوية الغرب وحداثته والاتجاه الليبرالي الذي كان ينتهجه على نحو فردي كسلوك ماز نمط حياته العصرية، طور باستمرار ذاتية فردية في الاستقلال بالرأي بعيداً عن قطيعية النخب في علاقاتها بالأحزاب السودانية، يميناً ويساراً. وفي الوقت ذاته اختبر الحياة السياسية من منطلق اهتمامه بالشأن العام من ناحية، وكذلك من منطلق تخصصه في القانون والكتابة في الصحافة، من ناحية ثانية؛ حتى تبوأ مرتبة سكرتير رئيس الوزراء عبد الله خليل في الدورة الأولى للمرحلة الديمقراطية القصيرة في السودان 1956 – 1958م.
لكن منصور، فيما كان يزاول العمل السياسي والصحافي والتحصيل الأكاديمي في الآن ذاته، استطاع أن يكوِّن خبرة محايدة في نسج الصداقات مع النخب السياسية داخل السودان وخارجه باتجاهات مختلفة. ولعل تلك المسافة التي أخذها منصور في حياته السياسية الأولى من كافة الأحزاب السودانية منحته قدرة على رؤية الاختلاف والمغايرة في نظرته إلى الأشياء، وهي قدرة طورها فيما بعد لتكون مرتكزاً لبصيرته الصائبة في تتبع أحوال وأطوار الحياة السياسية في السودان، حيث يعتبر منصور خالد بمثابة المؤرخ السياسي الأكفأ للحياة السودانية ليس فقط في رواية أحداث السياسة السودانية، بل كذلك في صناعة تلك الأحداث، سواءً من موقع الموالاة أم من موقع المعارضة، أو حتى من موقع خارج الموقعين لكنه متصل بالقضايا السياسية؛ كمناصبه في الأمم المتحدة التي قدم عبرها خدمات جليلة لوطنه في دعم السودان على مستويات عديدة.
كتب منصور السياسة بلغة الأديب، لكنه ظل ممسكاً بعصب الهوية السياسية لموضوعاته وان أضفى عليها رونقاً بديعاً من النثر غير المجاني في توصيف قضايا وأحوال سياسية جافة بلغة غير جافة، بل سلسلة ومنضبطة!
ولما كانت رؤية منصور في تفسير أصول قضايا السياسة السودانية (بل في طبيعة الحياة السودانية في الوسط النيلي) على نحو مغاير ومختلف لما كان معهوداً ومسلماً به بين النخب العربية النيلية لشمال السودان؛ كان العهد القصير الذي عمل فيه وزيراً للتربية وللخارجية عقد سبعينيات القرن الماضي، أكثر من كافٍ ليختبر نهجاً مستقلاً وحراً في التركيز على قضايا لم تكن تشغل بال الناس في ذلك الزمن المبكر، فيما كان منصور يرى إشكالاتها الجذرية بصورة واضحة ويناقش تلك الاشكالات على ضوء معرفة موسوعية ورؤية معرفية مركبة ومتجاوزة للسياسي إلى الفكري، والبسيط إلى المعقد، والظرفي إلى الدائم، لهذا منذ أن كتب كتابه الشهير (النخبة السودانية وإدمان الفشل) كان واضحاً ان اختيارات فكره السياسي والاستراتيجي لا يمكن أن تتصالح مع واقع ووقائع لأحوال حياة سودانية لم ينصهر فيها معنى الأمة والشعب، كما ينبغي أن يكون. أي كما هو في المبدأ التفسيري للحداثة السياسية. ففيما كان منصور يتأمل في حرب الجنوب الطويلة والمدمرة تجلياً واضحاً لمعنى انقسام الأمة على هويتها، كان مدركاً وحزيناً لمآلات المصير الذي يمكن أن يفضي إليه مثل ذلك الانقسام على تعريف الأمة. وهو ما حدث في العام 2011 حين انفصل جنوب السودان وأعلن دولته المستقلة.
ذات مرة قال رولان بارت: ” إن دور المثقف أن يتحَّمل هامشيته ” وبالرغم من أن منصور لم يكن هامشياً بالمعني الحرفي للكلمة، لكنه دفع ثمن ذلك الدور في سبيل الاستقامة على قول الحقيقة السياسية المرة. ولهذا كانت كتبه التي خصصها لبناء وعي معرفي دقيق بقضايا السياسة والحرب والسلام في السودان مثل (الفجر الكاذب) (السودان أهوال الحرب وطموحات السلام) أو ( جنوب السودان في المخيلة العربية) وصولاً إلى مجلداته الأربعة التي صدرت في العام 2018 بعنوان: (شذرات من وهوامش على سيرة ذاتية) التي كانت خلاصة لرؤيته حيال مستقبل السودان. كما لو أنه كان يحدس بالثورة التي اندلعت بعد ستة أشهر من صدور كتابه.
رحم الله منصور خالد فلقد بذل الوسع والنصح لأمته، وأسكنه فسيح جناته.
جريدة (عُمان) – مسقط – الخميس 30 أبريل2020م