لا حاجة بي إلى القول، إن أخطر مؤثر على العقول في العصر الحديث، هو الإعلام. بالإعلام صعدت النازية إلى دست الحكم، في ألمانيا. وبالإعلام انتشرت الشيوعية في أركان الأرض الأربعة. وبالإعلام أصبح ماوتسي تونغ، وكيم إيل سونغ على كل لسان. كما بالإعلام أبقت النخب الممسكة بمفاصل السلطة والثروة، في أمريكا، الجمهور تحت قبضتها، وقفلت الباب على أي تحولاتٍ تصب في صالح الجماهير، فتخفض نصيب هذه النخب المتحكمة في السلطة والثروة. أما هنا في السودان، فقد جرى استخدام الإعلام، في عهد الإنقاذ، لتخدير الجماهير بالخطاب الديني الزائف، وكذلك، بالإلهاء، عن طريق الإسراف في الإمتاع والتسلية. وما من شك أن الإمتاع والتسلية، عن طريق الغناء، والموسيقى، والأدب، والدراما، أمورٌ ضرورية، لكن، مع مراعاة ألا يكون ذلك هو كل شيء.
التعليم شقان: هناك التعليم الرسمي، وهذا هو الذي يتلقاه الطلاب في المدارس والجامعات. وهناك التعليم غير الرسمي، وهذا هو الذي يتلقاه الناس من وسائط الإعلام المختلفة، من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، ومسرح، وسينما. كما يتلقونه، أيضًا، من الأنشطة العامة؛ في المساجد والأندية، والجمعيات، ومختلف منظمات المجتمع المدني. ولا بد أن يتناغم التعليمان؛ الرسمي وغير الرسمي، وأن يستهدفا رفع الوعي بحقوق المواطنة وبضرورة المشاركة في سلطة القرار، وبمعنى العدالة الاجتماعية. فلرسم سياسةٍ إعلاميةٍ قاصدةٍ، لابد من وجود هدفٍ واضحٍ لها، منذ البداية. ولن يخدم الإعلام مسيرة التغيير إن هو اتبع سياسة سر كما تشاء، وقم بملء وقت البث بما توفر، وبما هو معتاد. يحتاج وضع الأمور في نصابها، في مجال الإعلام إلى عملٍ يحدث تغييرًا جذريًا في المفاهيم، وسط الطواقم الإعلامية العاملة، وخلق بيئةٍ إعلاميةٍ جديدة. هذا إضافةً إلى صوغ رسالة إعلامية تخدم في كل تفاصيلها أهداف الثورة، التي من أجلها ثار الشباب وقدموا التضحيات الجسام.
التغيير يبدأ في العقول أولا، ثم ينتقل إلى أرض الواقع ثانيا. وقد أثبتت ثورة ديسمبر المجيدة أن تغييرًا كبيرًا قد حدث لعقلنا الجمعي. لكنَّ الذي حدث هذا، على عظمته، لا يمثل سوى ضربة البداية لمسيرةٍ طويلة. ولن تبلغ هذه المسيرة غايتها، إلا إذا استثمرنا رأس المال الذي تحقق بالثورة، في وجهة خدمة أهدافها. لقد أزحنا نظام الإنقاذ، لكننا لا نزال أسرى لسياساته الإعلامية، التي سممت العقول، وشوهت الوجدان الجمعي، وهبطت بالتذوق الجمالي. فحتى الآن، لا يوجد فارق كبير بين الإعلام الواقع في يد كارهي الثورة، وبين إعلام الثورة. ما نحتاجه، في هذه الفترة المفصلية، خلق إعلام بمنظورٍ جديد، وخيالٍ إعلامي خلاق، يفك احتكار النخب للمجال العام. يتمثل التحدي القائم الآن في الخروج من قولبة الإنقاذ للعقول، وللذوق العام، وللرسالة الإعلامية. فنظام القهر يقولب عقول المقهورين، حتى يفقدوا القدرة على أن يروا بغير عين قاهرهم.