“حينما لا يستحم الإنسان لأيام ، ينز الجسد بالعرق المقرف . تتحرر خلاياه من كل ما فيها من خبث و سوء طوية. عندها يمتلئ جناحاه بهواء الحرية، فيحلق كطائر العنقاء الذي لا يدركه الفناء” .
كان ذلك بعض ما قرأه في مجلة ثقافية لكاتب مغمور لم يعد يذكر اسمه الآن. ما أكثر ما كان يملأ به رأسه من أوهام وتخرصات . و آية ذلك أنه لم يعد يؤمن بكل ما قرأه من قبل ، منذ أن وطئت قدماه هذه البقعة القاحلة . جسده المنتصب كجذع شجرة لالوب مزقه الألم إرباً . شارفت الساعة على الثالثة صباحاً و هو ما يزال حبيساً لهذا الميدان الذي يسمونه أرض التمام . هنا يصطف المئات من المجندين منذ تمام التاسعة مساءاً في طابور قد يمتد إلى حين آوان صلاة الفجر . تشكيلاتهم مبعثرة بانتظام على هيئة أربعة مربعات بشرية متوازية . كقطعان ماشية تأتمر بحفنة من الرعاة ، كان يتم تحريكهم في كل الإتجاهات . صيحات التعلمجية تلاحقهم وتهش عليهم بالعصي في بداوة مقيتة . تحسس رأسه الذي وسمته أعقاب البنادق بجرح غائر . خاطه طبيب المعسكر المتعجرف بغرزات أربع . وخزات الإبرة ما زال أثرها باقٍ في فروة رأسه . لابد أنه استكثر عليه بنجاً كافياً لتخدير الجرح . عندما اخترق المشرط جلده الغارق في الدم ، دوت منه صرخة مجلجلة . لابد أن عقب البندقية أخف وطأة على الرأس من هذا الألم القاتل . لم يفسح الطبيب لذهنه مجالاً ليجمع أفكاره الشتيتة . سرعان ما غرز الطبيب خيطه الأخير بنقطة المنتصف من فروة رأسه . عندها قذف بالقفازات من يديه في تأفف ثم قال بلهجة احتشدت بالصلف :
المرة دي جات سليمة . المرة الجاية لو قديت سلك تاني بتروح فيها .
كدأبهم دوماً ، انقض أنصاف الآلهة على خواطرك قبل أن تلتئم أطرافها المبعثرة . نعم تقدم ذلك الضابط ذو النجيمات الثلاث فألصق فمه بالمايكرفون قائلاً بلهجة حازمة :
حكمداراااات دوّر الطابور ..
أخيراً غازلت أذنيه تلك العبارة التي تؤذن بقرب مواعيد الإنصراف . وتقدم وكيل العريف ذو الذراع المزين بشريطين ليستبق الطابور و هو يتأبط العصا . ارتفعت عقيرته بهتاف عالٍ منتظم :
- هال .. هج .. هال
- هال .. هج .. هال
و عندما جاوز الطابور مقر المنسقين الشعبيين ، تسربت عاصفة ترابية مفاجئة فرجّت الصدور ليغشاها سعال ماحق . و افتضحت من وجه التعلمجي لذة غامرة خبيثة حتى أُضطر لقطع هتافه و هو يقول ساخراً : - ها .. اولاد الماكنتوش .. ظهروا .. ياااا
ثم صعد صوته مجدداً : - هال .. هج .. هال..
ساقته هال هج و أخواتها لذلك العهد الذي تعلق قلبه فيه بلبس الدبابير . آه يا عباس احمد قرشلي هل نسيت حين كنت تتمنى باستماتة أن تصبح ضابطاً بالقوات المسلحة السودانية ؟ استدرجك شغفك الجامح بالفكرة للانضمام لفرقة ” الكديت ” لشهر كامل بالمدرسة الثانوية . مشهد الطلاب الحربيين في رحلة أوبتهم من اجازة اخر الأسبوع بعد قضائها بين ذويهم كان يأسرك . مشيتهم بأكتاف محاذية بعثت في نفسك الغضة رغائب لم تستطع تجاهلها. كيف السبيل لإسترعاء انتباه الآخرين نحوك بهذا القدر من الجاذبية يا عباس ؟ تذكر جيداً كم ساقته قدماه إلى شارع الأسفلت بعصر كل يوم الجمعة . كان يراقبهم و هم ينتظرون باص الكلية الحربية الذي لم يتأخر أبداً عن تمام الساعة الخامسة مساءً . ثمة أشياء أخرى جعلت الفكرة تدور برأسه كما تدور حول الشمس زمرة من الكواكب . هل كانت الغيرة مما يجده هؤلاء من احتفاء هي الوصف الحقيقي لما يدور بدواخلك يا عباس ؟ عندما تغبط أحداً ما على الأدوات التي تكفل له التفوق ، لن تتأخر عن السعي بإستماتة للإستحواذ عليها بأي ثمن . خذ مثالاً على ذلك ما كانت تثيره فيك زغاريد الحاجة الرضية ست الشاي و هي تزف الطلاب الحربيين نحو الباص بحماسة ملتهبة . كانت كعادتها تتأهب لرمي اللقيمات في ” صاجها” المقابل لشارع الأسفلت الوحيد الذي يخترق الحلة . هناك ستبدأ دوامها الليلي بتقديم شاي المغرب لزبائنها و هي تترنم بصوتها المفعم بفرح هستيري :
يجوا عايدين .. يجوا عايدين يا الله
يجوا عايدين ..
ضباطنا المهندسين يا الله
الليلة السفر .. لا لا لا
الليلة السفر .. لا لالا
قلبي انفطر لا لا لا
دمعي انهمر لا لا لا
حسناً ، فلتكن أكثر وضوحاً يا عباس . كل ما ذكرته لم يكن سوى نصف الحقيقة . يتوجب عليك الإقرار بأنك أدمنت هذه العادة كلما أردت الإلتفاف حول وقائع الأشياء . أصل الحكاية هنا يرتمي كله حول نوال بنت الأستاذ صديق الجيلي . الأستاذ الصارم الذي كان ناظراً لمدرستك الإبتدائية وجاراً لكم في الحلة . نوال بقامتها الفارعة و وجهها القمري المستدير ما زالت ذكراها منغرسة بأغوارك السحيقة يا عباس . نعم ، قل الحقيقة كاملة و لو لمرة واحدة في حياتك . قل أنها صرعتك بنوناتها التي كانت تتكئ على خديها كما يتكئ الحلم الجميل على ذاكرتك المثقلة بالحكايات. بسنوات ست ، كانت تكبرك . بإهتمام جارف ، اسبغت عليك عطفها و انت ما تزال طري التجربة في ربيعك الحادي عشر . تشجعك على الدرس والتحصيل وتبتاع لك “دقة الدوم” و”داندرمة الكركدي” يومياً من مصروفها . ترافقتما بشكل راتب في مشوار صباحي سعياً لمظلة المواصلات بشارع الأسفلت . هناك ستصعدان سوياً إلى الحافلات المتجهة لشارع المدارس حيث مدرستها الثانوية تقابل مدرستك الابتدائية. في الطريق ، كانت تربت على كتفك وهي تقول : أنا أحبك يا عباس و كأنك أخي الأصغر بالضبط .. وكانت صادقة . وكنت أنت ترد قائلاً : و أنا أحبك يا نوال كأختي الكبرى تماماً ، وكنت أنت كاذب كذوب . آآه يا عباس .. لو اطلع أحد على خباياك لما تورط في حصبك باللوم و السذاجة . كيف لفتى مثلك فقد أمه في الخامسة أن يكون محصناً ضد ذلك الإهتمام العاصف الذي أولته لك نوال . استعدادك الفطري للإستسلام جعل حصونك تتساقط تباعاً . و اندفع قلبك المتهافت لتسمية الأشياء بغير أسمائها . لابد أن اهتمامها بك كان عطفاً خالصاً لم يرتق إلى أوهامك الطفولية . الأوهام التي زينت لك قصة حب أسطورية بين فتى في الحادية عشر من عمره مع فتاة ناضجة و حلوة مثلها بعمر الزهور . في يوم ما أخبرتك بفرحة غامرة عن ابن عمها الرائد بالقوات المسلحة الذي تقدم لخطبتها. عاجلتك ببراءة عن موافقة أبيها عليه بلا إبطأ . رغم هول المفاجأة ، إلا أنك أفلحت في رسم حالة من اللامبالاة المصطنعة على وجهك الصغير . أطرقت رأسك إلى الأرض و أنت تهز كتفيك وكأن الأمر لا يعنيك في شئ . أشهر قليلة مضت قبل أن تنتصب خيمة عرس نوال في الميدان الذي يتوسط الحلة لتتركك وحيداً وقد تمزق جفناك بالنحيب المر .
واليوم عدت القهقري للعسكرة مضطراً بعدما تم قبولك بكلية العلوم الرياضية . لا مناص من السير في هذا الدرب البائس إذن ، فليس هناك جامعة إن لم تتعسكر . هكذا قال من بيدهم مفاتيح كل شئ .. وما عليك إلا إحناء رأسك للعاصفة..