الذين يتحدثون عن السلام في السودان، بل والذين يتفاوضون حوله في جوبا، لم يتوقفوا دقيقة ليسألوا أنفسهم: ما التكلفة المادية لإحلال السلام؟ وكم تكلّف إعادة توطين اللاجئين والنازحين؟ وكم تكلّف مشاريع الإيواء؟ وكم يكلّف تقديم الخدمات لهم عند عودتهم؟ وما الاعتمادات المطلوبة للصحة والتعليم؟ وكم المبالغ المطلوبة لمشاريع التسريح وجمع السلاح وإعادة الدمج لآلاف المقاتلين؟ وما حجم التعويضات الجماعية والفردية المطلوبة؟ بل ما تكلفة إعادة بناء الدولة والمرافق التي خربت؟ وإذا حدث أن تساءل أحدهم عن كل هذه التكاليف، فلا بدّ أن يكون السؤال الثاني هو: ومن أين نأتي بكل تلك الأموال؟
يُحمد للدكتور حمدوك رئيس الوزراء، أنه سأل نفسه هذا السؤال الأول والسؤال الثاني، وفكّر في إطار الإجابة أن يذكّر الأمم المتحدة بمسؤولياتها نحو المساعدة في هذا الإطار، بحكم أن السودان عضو في المؤسسة الدولية، له حقوق ينبغي أن تُرعى، ومن حقه أن يتطلع إلى الاستفادة من خدماتها في مجالات السلام، دون أن ينتقص ذلك من سيادة السودان وسلامته ووحدة أراضيه واستقلاله أو سيطرته على كل أراضيه، فدخل في مكاتبات واجتماعات مع الأمم المتحدة، وتفاهمات في تأسيس عملية سلام في السودان تساعد فيها الأمم المتحدة عن طريق مباشر أو غير مباشر، عبر اتفاقات ثنائية، فتعين السودان على مواجهة تحديات اقتصادية هي قطعاً فوق طاقته، وجاء الطلب من جانب السودان دون أن تفرض الأمم المتحدة عليه واقعاً، كما كان يحدث من قبل، وجاء الاتصال تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، دون إجبار أو إكراه من أي طرف، ودون أن يتضمن المشروع أي مكوّن عسكري، ويتم الاتفاق على تفاصيله عبر حوار ثنائي بين الأمم المتحدة والسودان، وما من بند يُنفّذ ما لم يقرّه السودان، فما الغريب في ذلك؟ وما سبب التخوّف؟
ما زلت أذكر أن مجلس الأمن في العام 2004م، استبق اتفاقية نيفاشا بسبعة عشر شهراً، وبدأ منفرداً يحضّر لتدخله في السودان، للإسهام في تنفيذ الاتفاق المرتقب بين حكومة السودان والحركة الشعبية، فأصدر أوامره للأمين العام في أكتوبر عام 2003م، أن يتقدم بمقترحاته لتكوين البعثة التي سيبعث بها مجلس الأمن للسودان حال توقيع الاتفاق، وهياكلها وعدد عناصرها وولايتها -مصطلح «ولاية» يعني «صلاحيات» البعثة، وليس تولي أمر السودان كما فسّرها البعض- وتقدم الأمين العام بتقريره، وفي نوفمبر عام 2004م، قبل توقيع اتفاق نيفاشا بشهرين، أصدر مجلس الأمن قراره الذي أعلن في مادته الثانية «استعداده لمساعدة السودان بمجرد إبرام اتفاق السلام في جهوده الرامية لبناء أمة مسالمة وموحّدة».
ووضع السودان الآن مختلف تماماً، وربما كان مجلس الأمن متأثراً بالنموذج السوداني إثر توقيع اتفاق السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية واحتياجها لبناء السلام، عندما أصدر قراره في العام نفسه، في اجتماعه المنعقد في 20 ديسمبر، لإنشاء لجنة عالمية لبناء السلام، وجاء في ديباجة ذلك القرار رقم «1645» أنه «يقرّ بالحاجة إلى آلية مؤسسية مكرّسة للاحتياجات الخاصة للبلدان الخارجة من صراعات تحقيقاً للإنعاش وإعادة الإدماج والتعمير لمساعدتها على إرساء دعائم التنمية المستدامة، كما يؤكد على مسؤولية الحكومات الوطنية والانتقالية في تحديد أولوياتها واستراتيجياتها المتعلقة ببناء السلام وكفالة السيطرة الوطنية على زمام الأمور، وتنفيذاً للقرار الذي أصدره مؤتمر القمة العالمي بإنشاء لجنة لبناء السلام، كهيئة استشارية دولية حكومية يناط بها حشد الموارد وتقديم المشورة، ووضع استراتيجيات متكاملة لبناء السلام وتحقيق الإنعاش في مرحلة ما بعد الصراع، وتركز الاهتمام على جهود التعمير وبناء المؤسسات الضرورية، للتعافي وإرساء دعائم التنمية المستدامة في كل البلاد التي تواجه تحديات ما بعد الصراع، ومن حق السودان أن يتطلع إلى الاستفادة من هذه المؤسسة الدولية، التي نشأت خصيصاً لدعم جهود تحقيق التنمية المستدامة في الدول الخارجة لتوّها من الصراعات، وما دمنا نحن سادة قرارنا، ولا يفرض علينا أحد كائناً من كان أي مشروع لا ينال رضاءنا، أما الحديث عن فرض الهيمنة الدولية، فلا يعبّر إلا عن ضعف في الإرادة السياسية أو استسلام لعقدة ضعف موروثة، والثورة التي تتحرك من موقع ثقة مطلقة بالنفس لا تعاني من أيٍّ من هذه النقائص.