آفاق حياة دنيا السودان كوطن والسودانيين كمواطنين تبدأ بالوعي بماعلينا التحرر منه. وهو ذلك الوعي الذي ظل في تصاعده يشمل الان كثير منا وفِي تجلياته قد يبدو على درجات متفاوتة وان لم تكن متجاوبة مع بعضها البعض حتى تجعل من ذاتها حوارا متناغما مع ما نتفق او نختلف عليه حتى نتواصل فيه الى عتبة “نحن شعب السودان”. اذ ان “نحن شعب السودان” تمثل البدايات الأكبر في التحرر من دولة الرعية الى دولة المواطنين. والوعي بذلك يقوم أيضا على نظرة عميقة للوراء في ما استدبرنا من امرنا حتى وعسى ان نجد في ذلك ما يعين ويساعد في كيف لنا ان نجد ونجتهد في ان نتخذ الخطوات الاكبر نحو مستقبل أيامنا. فقد ردد العديد من أهل الفكر بان الذين لا يتذكرون الماضي قد حكم عليهم بتكرار أخطائه. لذلك فان القضية السودانية تقوم في اساسها على صناعة الدولة بيد اَهلها وفق عقد يشملهم ويتفقون علية. اذ ان الدولة صناعة إنسانية متفق عليها وفق نظام حر مباشر.
وهي أيضا مشروع مفتوح للتطور والتقدم بما تعطي مواطنيها حقوقهم في التقدم والكرامة والسعادة ولا تتجاوز حدودها بالقيام بالعنف ضدهم او البطش بهم او امتهان كرامتهم وحقهم في الحياة الحرة الكريمة. ومهما يكن من امر فقد كانت لنا على مدى تجربتنا الانسانية كمواطنين لا رعية للدولة على مدى عمرها خطوات كبيرة واُخرى غير ذلك. ولنا ايضا تجاربنا المتميزة في التمرد على وعدم القبول لواقع الامر خاصة ان كان ذلك الواقع لا يتفق وكرامتنا الانسانية.
ولعل في تراكم تجاربنا ما هو جدير بالنظر العميق الدارس واعمال الفكر الناقد. اذ في ذلك ما يمكن وصفه بحركة التحرر الذي تجسد في استقلالنا الاول في من استعمار التركية السابقة (١٨٢١-١٨٧٥) واستقلالنا الثاني من التركية اللاحقة (١٨٩٩-١٩٥٦) وقد تجدر الإشارة الى ان الأجيال الاولى من سودانيي القرن العشرين قد أطلقوا ذلك الوصف للتجربتين الاستعماريتين بإعتبار ان القاسم المشترك بينهما تجاه السودانيين وما قام به كل منهما من عنف وعنصرية. وتظل التركية السابقة والمهدية والتركية اللاحقة ودولتيهما الاستعماريين وما تلى ثلاثتهم جزءا أساسيا من تجربتنا الانسانية. كما ظل لكل من تلك التجارب اجزاء اخرى من الأثر الباقي في الخيال والمخيلة لجموع وأفراد السودانيين سلبا وايجابا. لذلك يظل التنقيب في رسوم وطبقات تلك التجارب الانسانية التراكمية أمرا ضروريا في بناء المستقبل. اذ تظل لكل من التجربة التركية الاولى رواسب من ما شكلت ورسبت من جراح عميقة و مخلف من نعرات بعينها تركتها تجربة الاسترقاق وما تأتى منها من صناعة الهامش بايدي انسانية أداتها الدولة التي كانت هي العامل الاكبر في تلك التجربة غير الانسانية.
وبقدر ما أفقرت تلك الدولة بما صنعت اجزاء هامة من البلاد بان اصطادت بعنف وقسوة لا تبارى إعداد كبيرة من القوى البشرية لمناطق واسعة من السودان التي استباحت عن طريق القوة الغاشمة وجعلت من امر الرّق قطاعا عاما تقوم عليه الدولة والوكالات التي تستأجرها والأشخاص الذين تصدق لهم بالقيام بذلك. لذلك فقد جعلت التجربة التركية من السودان مناطق مفتوحة الاسترقاق واُخرى مقفولة للضرائب الباهظة. لقد ظلت لتلك التجربة اثارها الخطيرة جدا على كامل الحياة السودانية في الماضي وما تركت من بعد ولا يزال. اذ تركت تلك التجربة، من جهة اخرى، صناعة وتواصل نعرات قبيحة كانت وظلت وستظل لها اثارها الخطيرة. اذ لا تزال تعشعش في ذهن بعض الأفراد والمجتمعات والجماعات التي لم تسترق من قبل ذلك الأثر الذي لا يزال يراوح مكانه في خلفية مسرح حياتنا الاجتماعي والعرقي ويظل في احيان كثيرة من الامور المسكوت عنها وفِي احيان اخرى من الممارس بشكل او باخر بان الذين لم يسترقوا وقتها ومن بعدهم أفضل وأعلى مقاما من الذين استرقوا ومن الذين جاءوا منهم على مدي عمر التجربة السودانية بواقع ان أولئك الذين من نَفَر او سلالات من هم غير قابلين للاسترقاق نوع اخر. وبذلك تشكلت خرائط من “هم الأعلون” ومن “هم الاسفلون” وأولئك الذين في منزلة بين المنزلتين.
ولا نظلم عمر البشير وبعض من والاه بالدم او بالتفكير او التدبير ان قلنا انهم اكبر ممثل لتواصل ما زال عالقا في اذهان البعض من رواسب تلك النعرات وحملة مثل ذلك القبح العنصري. ولا نبتعد كثيرا عن الحقيقة ان قلنا بان افتك ما فتك بحركة الإسلامويين هو ذلك النهج العنصري الذي قام على مثل تلك الروح التي لم تَر في السودانيين الا قبائل عليا واُخرى دنيا. وقد يكون من الضروري ان يدرس الدارس للتجربة السودانية مالحق تلك التجربة وما جاء على أيدي دولة الإسلامويين من شر في هذا المجال مقارنا بما جاء على يد دولة ونجت-سلاطين-ماكمايكل من هندسة عرقية وما جلبت كل منهما من كوارث علي السودان والسودانيين.
لقد جمعت المهدية الثورة السودانين كافة خاصة أولئك الذين صنعت التركية منهم الهامش الجغرافي والهامش الإنساني في الجنوب والغرب اضافة الى الذين هاجروا اليها من الذين أيقظت فيهم الثورة سودانيتهم كمواطنين لا تابعين لياتي من ذلك اكبر نموذج للتداخل والتصاهر والتناصر بين السودانين. لقد صنعت المهدية الثورة عواصم حضرية جديدة أولها الأبيض وعواصم متحركة وديوم وعاصمة كبرى اشادتها بين يوم وليلة وهي ام درمان. وبمثل ما قدمت الثورة قياداتها وحررت الكثيرين من ربقة العبودية قدمت كتابها ومداحها. غير ان المهدية الدولة التي قامت على شمولية ضيقة الأفق حولت نفسها الى جهاز باطش فرق بين السودانيين. رغما عن ذلك فان من الذين ماتوا ودافعوا عن تلك الدولة حتى يومها الأخير لم يدافعوا عن النظام وإنما ماتوا دفاعا عن استقلال بلادهم. وكثير من الذين وقفوا منها مواقف معادية لم يكن ذلك من دافع ان أكثريتهم قد خاصموها من باب الخيانة وإنما كانت هناك دوافع اخرى على رأسها ذلك النهج الشمولي الاستبدادي الذي لم يعط الاعتبار الكامل للتنوع السوداني الذي كان نعمة للثورة وجعلت منه الدولة نغمة.
لقد جاءت التركية اللاحقة ودولتها الاستعمارية تحمل شرا مستطيرا تجسد في ما فعله كتشنر بالسودانيين من قتل جلب له غضب واستنكار العالم حتى بعض من صحبوه في حملته العنيفة. فقد انطوى الامر على الانتقام وتواصل الشر بأشكال اخرى في ما بعد في تصميم ونهج دولة ونجت التي قامت بالعنف وعلى العنف الذي اسماه ود سعد بالكبة التي أزهقت حياة السودانيين واستعمرت دينهم وحياتهم وحولتهم الى رعايا للدولة لا للتاج والتي قامت دعائمها وتواصل امرها على ذلك المنوال. لقد قننت ووسعت تلك الدولة رقعة الهامش الجغرافي بان اضافت اليه الهامش الاقتصادي والهامش الاجتماعي.
غير ان تلك الدولة صنعت قطاعا جديدا من السودانيين وذلك عن طريق التعليم النظامي الذي ارتبط ارتباطا وثيقا بما تريده تلك الدولة ومن اجل خدمتها. نسمي أولئك النفر او الفصيل بجماعة الدولة او community of the state. غير ان هذا الفصيل قد أطفى على نفسه نوعا من الطليعية بيد انه فصيل طليعي بامتياز خاص سواء كان في إطار الحركة الوطنية حيث سموا أنفسهم بمؤتمر الخريجين وفِي الأحزاب التي أقاموها يسارا او يميناً باعتبار ان ما سواها يعتبر تقليديا او رجعيا.
هذا وقد ظل ولا يزال مثل هذا الامتياز احد دعامات الحكم الانقلابي الشمولي الذي يقوم على الاختيار للموقع المتقدم في الدولة بدلا من الانتخاب الحر المباشر وما يترتب عليه من مراجعة وتقويم. ولعل اخطر ما قاد اليه ذلك الاتجاه النخبوي هو ذلك الاستبداد الذي قامت عليه دولة الإسلامويين باعتبار انهم فصيل طليعي لا يستمد مشروعية وجوده ودولته من الشعب السوداني وإنما يعتمد على مشروعه الحضاري الذي تحول عن طريق الانقلاب الذي استبدل شعار الاسلام هو الحل الى العنف هو الحل. ومن ثم فقد اسقط الإسلامويون او تناسوا عن عمد الحديث عن دولتهم بأنها دولة دينية باعتبار استحالة الدولة الدينية.
ولعل من اكبر التجارب الانسانية التي أكدت عليها تجربة الإسلامويين السودانيين البائسة هو استحالة الدولة الدينية. وان ما صنع اسلامويو السودان هو نموذج لصناعة إنسانية قائمة على العنف وهنا يصلح وصف تلك الدولة بأنها نموذج متميز ومخالف ومختلف في الفصل بين الدين والدولة.
تلك مقدمة لابد منها باعتبار ان البدايات الكبرى لأبد ان تقوم على دراسة شاملة تقوم على اعتبار مثل تلك النظرة الدارسة هي المدخل لحياة دنيا السودان والسودانيين في صناعة السودان الوطن الممكن. وفِي ذلك المدخل يمكن ان تبدوا معالم الطريق واضحة صوب التحرر من ربقة دولة الرعايا والدخول الى دولة المواطنين كافة.
abdullahi.gallab@asu.edu
بدأ دكتور عبد الله جلاب مسيرته الصحافية في جريدة “المورنق نيوز” في دار “الأيام” في العام 1968 ثم عمل في “الراى” العام الأسبوعية و”الصحافة” اليومية، ورئيس تحرير لمجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح.
وكان أول مستشار إعلامي بسفارة السودان بلندن، ثم مديرا للإعلام الخارجي، ومديرا لمصلحة الاعلام ووكيلا لوزارة الاعلام بالانابة ومستشارا صحافيا لرئيس وزراء الفترة الانتقالية الجزولي دفع الله. ونال شهادة الماجستير والدكتوراه من جامعة “بريقهم يونق” الامريكية في ولاية يوتا.،يعمل حاليا محاضرا بجامعة ولاية اريزونا. وانتخب رئيسا لجمعية الدراسات السودانية للفترة ٢٠١٣-٢٠١٥ كما انتخب نائبا لرئيس الأكاديمية الامريكية للدراسات الدينية المنطقة الغربية وسيتبوأ موقع الرئيس للأكاديمية العام القادم.