طلب مني ابني قاسم أن أرشح له روائيا يقرأ له . وقاسم هو أصغر أولادي ، لكنه عندما تقدم بطلبه هذا كان قد تخرّج فب الطب وأصبح ( ما شاء الله ) وبفضل مثابرته وعون الله ، طبيباً علماً بين أقرانه. رشحت له غابرييل غارسيا ماركيز ، فما كان منه إلا أن اشترى روايتين لماركيز وبدأ في القراءة .
سألت قاسما بعد أسبوع من هذا ، هل قرأت جزءاً من ماركيز ؟ قال نعم ، قلت وما ترى ؟ قال يا أبوي ده مجنون.
ثم تمكنت من الدخول إلى مذكرات ماركيز المعنونة (عشت لأروي) ، فمر علي في بدايتها من يحدّث أم الراوي (وهو ماركيز) ويصف لها أين تجد ابنها وبرفقة من: ومن أخبرها بذلك حذرها قائلا: كوني يقظة، لأنهم مجانين تماما.
هذا كلام قاله ماركيز نفسه يصف به نفسه وأصدقاءه . وذاك كلام قاله ابني قاسم دون أن يقرأ (عشت لأروي).
والجنون المقصود هو الجنون الروائي، والحديث بلا انقطاع في موضوع كبير يحتوي على تفاصيل روائية ومعرفية بلا تلعثم، ودون أن يثير الملل د، ويحدث الانتقال سلسا من فقرة إلى أخرى ومن حكاية إلى أخرى ومن معلومة إلى أخرى دون خلل، ودون أن تفقد الرواية تماسكها، بل يزيدها هذا الجنون تماسكا.
وقد حاولت أن أقول هذا في مناسبة تحدث فيها صديقي وجدي كامل وآخرون ، لكني لم أمنح الوقت الكافي لأقوله. وها أنذا أكتبه في أسافير الله الواسعة، ولن يستوقفني إلا خشيتي على جرجرة القارئ إلى دهاليز أخشى أن تسوقه إلى الملل.
والزول ده، التي وردت في العنوان، أقصد بها مباشرة الفنان الباحث محمد الحسن الجقر . فقد استمعت إليه يغني ويدوبي، ويترنم دون اوركسترا. واستمعت إليه يتحدث ويخوض في تواريخ الغناء وحكاياته ومناسباته، حتى تمنيت أن يكتب هو الآخر (عشت لأغني). الجقر متبتل في محراب الحقيبة والغناء الشعبي والأشعار العامية والدوبيت. تجده جالسا في كرسيه يهتز كما يهتز الدرويش مع النوبة والطار . ويستخدم كل أجزاء الجسد معبرا بها عن معاني الكلمات التي يغنيها أو يستمع إليها . ويبدو لي أنه لا تستعصي قصيدة على الجقر ، فهو يحفظ كل أشعار الحقيبة، ويعرف ملحنيها، ومؤديها، وكل التفاصيل التي لا نهتم بها نحن المستمعون والمتابعون إلا قليلا .
لماذا لا نوثق للرجل، ونعينه على أن يوثق لنفسه، ويوثق لنا عن كثير من الأشعار الشعبية وأدب الحقيبة والغناء وتواريخه . فسيأتينا يوم لا نجد فيه من يمتلك معلومات غزيرة كالتي يمتلكها الجقر .