هذا العنوان ليس مني وإنما هو تعديل أو فلنقل تحريف للعنوان الأصلي وهو ( لكزة للجنس اللطيف) الذي وضعته لمقال كتبته ونحن طلاب في جامعة الخرطوم في النصف الثاني من ستينات القرن الماضي.كان الصديق عباس النيل، حيا الله أيامه، هو المشرف على صفحة الجامعة بجريدة الصحافة.
وكان يسكن بغرفة مجاورة لغرفتنا بالدور الثالث بداخلية عطبرة (ب) في البركس. وهو يعرف عني الاهتمام بالكتابة في الصحف نشرت في بعضها قليلا من “شخابيط” كلماتي وأشعاري ومقالاتي وكان لي نصيب من صفحة الصحافة التي يشرف عليها.
وموضوع مقالي الذي نحن بصدده ، كان محوره نقاش بدأناه في قهوة النشاط التي تعودنا أن نتحلق فيها جماعات جماعات ما بين المحاضرات وأوقات الفراغ نتسامر أو نناقش بعض الأمور ، أظن كان غالبها في السياسة التي شغلتنا في فترة الديمقراطية الثانية بعد ثورة أكتوبر. ولعلي أستعيد من الذاكرة التي عصفت بها السنون السبب الذي حفزني لتلك “اللكزة” ولكتابة مقالي.
كان عدد زميلاتنا من الطالبات قليلا في كل الكليات ، ففي كلية الآداب وكلية الاقتصاد (وهي كليتي التي تخرجت فيها) كان عددهن ربما لا يتجاوز 15% من مجموع الطلاب وتتناقص هذه النسبة في الكليات الأخرى بالمجمع الرئيس للجامعة وأيضا في مجمعىَ الطب وشمبات حتى تصل النسبة ربما إلى 1% أو أقل في كلية الهندسة.وكنا نتندر على زملائنا طلاب الهندسة وهم يغدون ويروحون في الميدان الغربي إلى الكلية “بمساطرهم” الطويلة المميزة ليس بينهم طالبة واحدة! علما باننا ونحن طلاب الكليات ذات “ال 15% كنسبة طالبات” ما كنا نظفر بالانس مع الزميلات إلا لماما وصدفة ولوقت محدود. وكنا قانعين بهذا ، فلقد تعلمنا في مبادئ علم الاقتصاد أن الندرة تتحقق حين يقصر العرض عن الطلب ولقد كان هذا هو الحال !
وذات نهار كان موضوعنا في قهوة النشاط عن مشاركة زميلاتنا طالبات الجامعة في نشاطات الحياة الجامعية المتنوعة المختلفة. ويومذاك كانت جامعة الخرطوم بؤرة نشاط متصل ، لا يخلو دار اتحاد الطلاب من الليالي السياسية والفنية الغنائية والثقافية والأمسيات الشعرية والمحاضرات والندوات وغيرها، تستضيف فيها دار الاتحاد كبار المغنين والشعراء والأدباء ورجال الفكر والثقافة وأقطاب السياسة من شتى الاتجاهات والأحزاب. هذا إضافة لحلقات النقاش العفوى في الدار في شكل حلقات من الطلاب وضيوفهم تمتد حتي منتصف الليل .
يومها لم تكن لنا أركان نقاش كالذي يعرفه أبناؤنا طلاب الجامعات في وقتنا الحاضر. وكنا أحيانا نغشى بعض لقاءات الغرف العامة ال common rooms بالداخليات يتبارى فيها خطباء الاتجاهات السياسية بأنواعها. وكانت قهوة النشاط تعج بالصحف الحائطية المعلقة على اللوحات الخشبية والتي تُنقل في أول المساء لدار الاتحاد وكان يتجمهر لقراءتها عشرات الطلاب في النشاط والدار.
كان محور موضوع نقاشنا في جلستنا تلك هو إحجام زميلاتنا الطالبات عن المشاركة بشكل كبير في تلك النشاطات التي أشرنا إليها ما عدا قلة منهن. فبعضهن كن يشاركن في العمل السياسي أغلبهن في الجبهة الديمقراطية والاتجاه الاسلامي. والحقيقة أن اللائي شاركن في نشاطات الجبهة الديمقراطية في تلك الأيام كن أبرز وأكثر ظهورا من المنتسبات للاتجاه الاسلامي. لكننا في نقاشنا ذاك وصلنا إلى أن مشاركة ” الجنس اللطيف” الجامعي لا ترقي بالجملة للتعبير عن الحراك والمشاركة المطلوبة منهن في الحياة الجامعية .لاسيما وطالبة الجامعة آنذاك كانت – بحكم العدد القليل – قامة وقيمة. وكنا في لحظة نقاشنا نستدل على إعراضهن عن المشاركة بقلة إقبالهن على قراءة الصحف الحائطية المعلقة قبالتنا بقهوة النشاط ، إذ كان جليا أنهن لا يعبأن بقراءتها. وأذكر أننا انقسمنا بين مؤيد ومعارض لهذا الاتهام بالتقصير، وكنت مع أصحاب الرأي القائل أنهن مقصرات! ومن هنا عقدت العزم على كتابة مقال.
في مساء نفس اليوم سطرت مقالي وأسميته ” لكزة للجنس اللطيف” ولا أدري لماذا خطر لي أن زميلاتنا الطالبات الجامعيات بحاجة إلى “لكزة” ولماذا اخترت هذه المفردة ابتداءً. لم أتبين قسوتي في اختيار هذه الكلمة أي اللكز إلا بعد زمان طويل مضى ، أصبحت فيه الواقعة بعضا من الذكرى. فقد أتيت بآخرة على بعض معانيها فلكزه في صدره، أي لكمه ، ضربه بجمع كفه في صدره، ويقال لكز جواده ففر به كالسهم، ويلكز شخصا ليثير انتباهه. ولاشك أن التوفيق قد جانبني وأنا أختار اللكز وسيلة للتعبير وعنوانا لمقالي، وإن كنت أجد شيئا من العزاء في أن من أغراض اللكز ومعانيه “لفت الانتباه” والله يعلم أن هذا هو كل ماقصدت إليه.
وعلى كل حال لم تكن تلك هي المشكلة كما سنرى، فالذي حدث أنني عدت للغرفة في المساء وسلمت مقالي للصديق عباس لنشره والحق أنه أعجب به لأننا كنا على رأي واحد من قضية احجام زميلاتنا الطالبات في النشاطات الجامعية غير الأكاديمية . كان ذلك في بداية الأسبوعK وكانت صفحة الجامعة بالصحيفة تنشر كل يوم أربعاء فيما أذكر، وكانت الصحف قليلة في تلك الأيام وصفحة الجامعة مقرؤة بشكل واسع من قبل الطلاب. وكعادته حين يسلم مواد الصفحة للجريدة أكد لي أن المقال سيتم نشره في الموعد.
وفي صبيحة الأربعاء اشتريت الصحيفة من كشك الشيخ عطية في مدخل البركس وأنا في طريقي للكلية ولم تكن لدي محاضرة فانتحيت جانبا في إحدى الأرائك قبالة كلية الآداب وقلبت صفحات الجريدة لأصل لمقالي. ويا لهول ما رأيت ( لكزة لصنمنا الجميل – بقلم عبدالله محمد سليمان) ! كان هذا هو العنوان الذي اختاره محرر الصفحة الصديق عباس سامحه الله دون علمي. لم أعرف ماذا كان الداعي لهذا التعديل أو التحريف ولماذا غير عباس العنوان، وأنا غارق في ورطة ” اللكزة ” التي لم اتبينها إلا لاحقا.
الحق أنني غضبت وخاصمت عباسا عددا من الأيام لا أكلمه رغم أنه حاول التبرير، وعلل اختياره لمفردة “الصنم” ونعته ب ” الجميل” في عنوان المقال لأنه قصد إلي الإثارة الصحفية، ولفت انتباه الطالبات بشكل خاص لقراءة المقال. ولقد تعرضت بسبب ذلك لعتاب كثير من الزملاء وبعض الزميلات، وما أجدى اعتذاري ومحاولتي إلقاء اللوم على الصديق عباس النيل. وبقيت زمنا أستعيد سيرة اللكزة والصنم.
ومرت الحادثة ما أحزنني بعدها إلا يوم جئت ذات مساء كعادتي مع أبناء دفعتي إلى دار اتحاد الطلاب، وبدأنا بمطالعة الصحف الحائطية ويا لهول ما قرأت في العنوان الرئيس وبالبنط العريض بجريدة “آخر لحظة” لسان حال الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم ( عبدالله محمد سليمان – شيوعي قديم يندس في صفوف المستقلين!!) وتلك قصة أخرى.
ذكريات الجميلة المستحيلة
66- 1971م