تحذير: هذه قصة متخيلة الرجاء قراءتها للنهاية حتي لا تفهم بانها نعي لشخص بعينه
ا ذكرك يا بسمة الطفل الغرير وقت الخلوق ترقد تنوم أسهر براي أرعى النجوم والشوق يلف جنحينو بي فوق لي يحوم وأحلف بي اسمك في الخيال طيفك كمان بي فوقو جال اتمنى لو لحظات يدوم لكني فجأة ألقاهو زال السر عثمان الطيب
افاقت المدينة بأنسامها الشحيحة على استحياء، ولم تشهد أمي ذلك الصباح، لم تتل فيه اذكارها الصالحات الزاكيات كعادتها، لم تنهض إلى عدة الشاي، كانت وكأنها غافية غفوة القيلولة، سمحاء كوليد، أجمل منها حية تناضل الحياة.
افقت أنا على غرفة كانت تظلني وقد طار سقفها، وأنا اقف في منتصفها نهباً للسيل، أبدينا بأسا جميعنا ونحن ننقل جثمانها في حرص إلى البيت، ولم نتمالك أنفسنا والأيدي تحملها إلى مقرها الأخير، بكينا رحيلها وبكي معنا أهل الحلة، جاءوا من كل بيت وحارة، وجدناهم أمامنا في ساحة المقبرة وقد بنو ليها بيتها الأزلي، جاءوا من كل الأصقاع، وجاء اهل الرشيد من قريتهم، وهاتفنا الأبعدون، غمرنا الناس بفيض من المشاعر الصادقة حتى نسينا ما ألم بنا، نصب أولاد سيد وجيل جديد من أبناء الحلة الصيوان، عاونهم أولاد الشيخ، كان جمعاً مهيباً، حتى أصبح العزاء بمثابة عودة الروح للحلة، جمعت امي أهلنا المتباعدين وأصدقاءنا وجيراننا القدامي ممن تفرقت بهم طرائق الحياة، والذين أغتربو من البلاد فجاءوا ومعهم اولادهم وبناتهم الذين ولدو في المنافي، خرج الذين اعتزلو الدنيا بمافيها من كهوفهم، جاءوا شيوخ الدباسين … اليعقوباب … الحسانية … الركابية … الحلاوين … العركيين … المسلمية، جاء زيدان وكانت تبدو عليه دلائل الإعياء، برغم مأساوية الموقف، إلا أنه سألني.. إنشا الله تكون شفت ليك حاجة تانية غير البنقز؟ فضحكت بالرغم مني، إنطفأ الوميض في عينيه فعلمت بأنه بسبيله إلى الرحيل، جاء حنتوبي والجمري، وكثير من عزابة البيت الناصية، ولم يأت المخبر، وعادل لازمنا حتى يوم الختمة، ولدهشتي إتصل بي نظرية، وسألني عن عبدالإله باهتمام، فتعجبت من أمر حلتنا، فالسجان القاهر يجوز له أن يتعاطف معك حين تفقد عزيزاً، فكأنما يعزز جزءاً من إنسانيته يوشك على الإنهيار، ويودعك بيوت الأشباح دون أن يطرف له جفن. سمعت الشيخ وهو يصيح بأولاد عشة.. كدي خلوني من “الحوت” وكندا وما كندا، قومو على الشاي وشوفو الناس الهناك ديل، وسمعت “سيد” الذي عاد من ليبيا نهائياً، وهو يحدث الناس.. أنا آخر زول لاقيت القذافي قبل ما يهرب، قالي يا سيد تعال معانا أحسن ليك سيبك من السودان بياكلو صراصير هناك، قلت لي يا ريس إنت الحتاكلك الصراصير الليلة.. زي كده.. زي ما بكلمكم، ضحك الجميع فلم أغضب، فهذا هو ترياقنا ضد الحزن.. الضحك.
جاء عبد الرحيم حمدي، فخرجت صفية حافية في ثوبها المتسخ لتقبل الفاتحة، تأملته للحظات وهو يصافح الناس جميعاً، وقد ضرب صفحاً عن المثلث. جاء دكتور تادرس في صحبة مجدي، إعتذر عن التأخير، فقلنا له أن الأمر كان بيد الله ولا تثريب، وأن طاقم المستشفى بذلو كل ما في وسعهم، مجدي وخالتي نبيلة كانو معنا حتى انقضاء العزاء، في مساء اليوم الثاني، وصل عبد الإله، فانفتحت طاقات النحيب، وتسالمنا حتى اطمأنت قلوبنا وابتسم في وجوهنا القمر.
مضت ايام العزاء وأنا في خدر روحي وجسدي ما عهدته في حياتي، إلا لحظة انفصال الحبل السري، ولحظات فطامي من صدر امي، كنت روح امي تمشي على قدمين، كنت تنقورها وكانت تنقورتي، غادتي وحسنائي، تقابتي وأهل مسيدي، كانت الودعة والطية والعافية، خضرة الحواشة والطرفة وعينة الخريف، برد الظلال وجمام الندى، كانت لنا موضع السجدة والسندة، ركيزة المربعة ومرق العرش، وتد الخيمة ومثلما يقول الشاعر كاسية الماشين عرايا وفوقها يتقطع هديما، رأيت سريرها في الحوش خاليا وموحشاً فدعوت لها بالرحمة.
مضت الأيام سراعاً، عادت صفية لبيتها، ومعها رشيد وايمن والشيخ، اقترح خالي العوض على صفية أن تنتقل الي البيت الكبير، مكان أمها، وحتي تكون في رفقتي والخفية.. البت دي فتاة ما بجوز تقعد براها.. فرحت لذلك الامر ووافقت صفية، ابدى رشيد شيئاً من التردد، وقال بأنه اعتاد على امبدة وعشرة الشيخ، إلا أنه رضخ في النهاية، وماهي الا ايام معدودة، وصفية تحل محل أمي، تنصب عدة الشاي في الصباح الباكر، ورشيد ينام في الحوش الوراني، والخفية في غرفتها، مضى زمن قبل أن أعتاد على هذا النظام الجديد، لم يكن بيني وبين رشيد موضوعاً للكلام، إلا ايمن، ولكن الامور تطورت بيننا، فصار انس متصل، وعلم بقصة مولانا مختار، ضحك كثيراً وقالي أنا كنت عارفك بتتآمر على.
نبشنا في أغراضها، فوجدنا صوراً عديدة لها، مع ابي ومع اخواتها، شذرات من تاريخ اسرتنا موثق ومحفوظ في علبة حلوى ماكنتوش، صورة أختها التي رحلت، صورة عرسها، وصور من زواج صفية، وصورة لسيد خليفة وعثمان الشفيع، صورة ختاني والشيخ وعلى رؤسنا الاهلة، أعداد قديمة لمجلة الاذاعة والتلفزيون، على احد اغلفتها صورة شرحبيل، أعطيتها لعبد الاله ففرح فرحاً عظيماً، وفي صفحة الاشعار الجديدة قصيدة الطير المهاجر مهداة من صلاح احمد ابراهيم الى عثمان حسين، وفي الداخل اشارات بقلم رصاص في صفحة بعنوان “فلقة دماغ”، يحررها مفلوق، ابو العزائم مديرا لإذاعة المغتربين، البث التجريبي لإذاعة ريبا يبدأ، صدور ديوان ليالي الريف للشاعر اسماعيل حسن، وردي وابن البادية يتنازعان اسفاي، صورة للنميري وهو يفتتح سكر عسلاية منتزعة من الرأي العام، وصورة تجمعه مع جمال وقذافي في الاستاد، صورة تجمع بين السيد عبد الرحمن والسيد علي، قصاصات من خواطر “جكسا”، قرأنا بعضها ركيكة لا ترقى إلى مستوى أداءه الكروي، صورة للدحيش في اعلان لاحذية لاركو، وصورة لمحمد على كلاي في اعلان عبد اللطيف جميل للتايوتا.
اخترنا صورة لها وهي في مجد شبابها عليها ختم استديو الوادي، قال عبد الاله انه سيكبرها حتى نعلقها على الحائط بجانب صورة الوالد، احتفظت لنفسي من اثارها بطرحة الصلاة، ولم نختلف كثيرا حول مصاغها وكل تركتها.. زرنا قبرها في العيد الاصغر والعيد الكبير لحولين ثم لم نعد إلى قبرها مرة أخري فاندرس رمسها، وطوتنا عاديات الحياة في لجتها. ************* من رواية افق الارجوان