قلنا ان تواجد الروم (الخواجات) في منطقة برقة له تاريخ موغل في القدم خاصة اليونان والاغريق لقرب المسافة من بلادهم الي برقة ويفصلهم البحر فقط وقد اعتبر الاروبيون الروم كل سواحل ومناطق البحر المتوسط في شرقه وسواحله في شمال افريقيا اعتبروها جغرافيا واثنيا جز من اوروبا خاصة البربر الامازيغ وهم السكان الاصليون لهذه المنطقة. بظهور الاسلام وبداية الفتوحات اجتازت جيوش المسلمين مصر وشمال افريقيا مرورا ببرقة والجبل الاخضر. ففي البيضاء وعلي بعد ميل واحد من جامعتنا يوجد ضريح الصحابي الجليل رافع الانصاري حيث وافته المنية وقد اقيم مسجده المشهور قرب القبر ويزوره كل من جاء الي البيضاء او او كان مسافرا عبرها. وقد كانت هذه المدينة هي المقر الرئيسي للملك ادريس السنوسي الذي حكم ليبيا قبل العقيد القذافي ويقال ان الملك هو الذي اسسها وطورها وبني فيها جامعة اسلامية والتي صارت فيما بعد تسمي بجامعة عمر المختار. ولان هذه المدينة تمتاز بالجمال الاخاذ خاصة في فصل الربيع فقد صارت مصيفا دائما للعقيد القذافي وقد اقيمت له دار بظاهر المدينة وفي مكان منفصل يعرفه كل اهل البلد وقد كانت تاخذنا الرهبة والخوف كلما مررنا بالقرب منه، علي ان العقيد وهو من سرت وسبها في الصحراء الليبية لم يعد غريبا عن الوسط الاجتماعي في البيضاء بعد ان تزوج احدي بنات قبيلة البراعصة الكبيرة وواسعة الانتشار في منطقة الجبل ولها نفوذ اجتماعي وتاريخي واقتصادي في المنطقة… في فصل الربيع يغطي الزهر والورود كل المساحات والسهول والروابي. بالوان مختلفة وزاهية تسر الناظرين، فالتنوع النباتي ويعرفه الزراعيون بعدد انواع النبات في المتر المربع من الارض، موجود هنا رغم اني كنت استبعد ذلك واعتبر ان المناطق الاستوائية والسافنا الغنية فقط هي ما تذخر بهذا التنوع. في اوج الشتاء والمطر تتغطي الارض بالجليد تماما ويصبح سطحها ابيض ومن هنا جاءت التسمية : مدينة البيضاء. ويعاني مرضي الربو الرطوبة الاما مبرحة في فصل الامطار هذا وقد كاد بعض الاخوة السودانيين ان يموت بسبب ذلك. وهناك بعض السياح الاوربيين ياتون الي البيضاء في ليروا معالمها السياحية ويستمتعون بجمال طبيعتها واثناء دراستنا زار المدينة السيد احمد الميرغني رئيس مجلس رأس الدولة السوداني ونائبه ادريس البنا في عهد الديمقراطية الثالثة وبعد انقلاب الانقاذ زارها البشير ولم يحفل به احد.
وقد كانت منطقة الجبل الاخضر هي مسرح الصراع الرئيسي بين الليبيين والوطنيين والاستعمار الايطالي! وقد كان البطل عمر المختار هو من قاد المقاومة والتفت حوله جموع غفيرة لطرد المستعمر. ان دولة ايطاليا وبحكم قربها ومحازاتها الشواطئ الليبية فقد كانوا يعتبرونها جزاء اصيلا من ايطاليا لذا غزوها واستعمروها بعد الحكم التركي الذي كان مسيطرا علي مقاليد الامور في لبييا قرابة الثلاثماىة عام وباسم السلطان العثماني. لقد نكل الايطاليون بالليبيين واستعبدوهم وما زالت اجيال من الليبيين تحكي عن مظالمهم، بل ان هولاء الطليان ساقوا الالاف الليبيين خاصة من منطقة طرابلس واسترقوهم بعد ان تعرضوا لعمليات تبديل الهوية عبر اللغة والدمج القسري في المجتمع الايطالي حتي ذابوا تماما في ذلك المجتمع وقد ظل العقيد القذافي يندد بهذه الجريمة ويطالب بالتعويض المادي الي ان زال حكمه. لقد خاض الشيخ عمر المختار معارك كر وفر استمرت سنوات ضد الطليان وهو يتنقل في اودية واكام الجبل الاخضر وقد تمت اقامة نصب تذكارية في جميع الاودية والامكنة التي شهدت معاركه ضد الطليان ومنها وادي الكهوف الذي كان يخزن فيه سلاح الثوار وهي مغارات عميقة ومظلمة وقفنا نشاهدها ونحن في الشارع الواسع المرصوف الذي يمر بتلك المعالم في طريق بنغازي – الجبل الاخضر. وفي التراث الشعبي الليبي واشعاره هناك قصائد طويلة تعتبر ملاحم تقص اخبار تلك المعارك والماسي والمواجهات خاصة قصة معتقل او معسكر العقيلة الذي كان يحتجز فيه المدنيون الليبيون شيوخا واطفالا ونساء وفتيات وقد مر عليه شاعر ليبي مشهور وقال عنه مرثية باكية باللهجة الليبية وهي قصيدة طويلة كالمعلقات في الادب العربي او كالمسادير في الشعر الشعبي السوداني. وما زلت احفظ مطلعا مما قال ذلك الشاعر الشعبي الليبي عن ذلك المشهد :
ما بي مرض غير ضرب الصبايا وجلودهن عرايا
ما بي مرض غير حبس القبيلة وبعد الجبا من بلاد الوسيلة
ما بي مرض غير قل المحامي وضعفة كلامي……….. الخ.
وهو يعني ان ما يقتله من الالم هي تلك الممارسات والتعامل القاسي الذي كان يقابل به المحتل الطلياني من ياسرهم من الليبيين. استمر الشيخ عمر المختار يقاتل الطليان زهاء 22 عاما وقد اظهر شجاعة ودربة في القتال واوقع في العدو خسائر في معارك مشهودة حتي تمكنوا اخيرا من اسره وحكموا عليه بالاعدام شنقا ونفذوه في 1925 م. وقد هز خبر اعدامه الوطنيون في مصر وبلاد الشام وشمال افريقيا الذي بذلوا جهدا عظيما في موازرة البطل عمر المختار وشعب ليبيا في كفاحهم ضد الطليان، فقد كانوا يرسلون اليه السلاح من مصر عن طريق الصحراء. وقد خلد الشاعر احمد شوقي بطولات ومفاخر عمر المختار في قصيدة هي من عيون الشعر العربي الحديث :
يا ايها السيف المجرد بالقلا
يكسو السيوف علي الزمان مضاء
تلك الصحاري غمد كل مهند
ابلي واحسن في العدو بلاء
واتي الاسير يجر ثقل حديده
اسد يجرر حية رقطاء
دفعوا الي الجلاد اغلب ماجدا
ياسو الجروح ويطلق والاسراء
حرموا الممات علي الصوارم والقنا
من كان يعطي الطعنة النجلاء
وهذه ابيات قليلة من تلك القصيدة العصماء الخالدة.
كلما ذكر الجبل الاخضر يذكر التاريخ زحف الفاتحين المسلمين الي شمال افريقيا ودروب الزاحفين شرقا الي البقاع الحجازية يزورون البيت الحرام ويعقدون حلقات العلم في رحابه من سكان شمال افريقيا الذين استعربوا وخدموا الحضارة الاسلامية ومنهم ذوو الاصول العربية كابن خلدون التونسي اليمني الحضرمي الذي يعده الكثيرون مؤسسا لعلم الاجتماع كما عرفه العصر الحديث.
نواصل.
.