انتظرت كغيري من السودانيين
المهتمين بسؤال التطور التنفيذي والمجتمعي والثقافي، وبعد تشكيل سلطة الانتقال أن تُبذل
الطاقات، وتُعمل الأذهان، وتُوظف العقول القادمة للحياة التنفيذية في التأسيس، والبدء
في هيكلة جهاز الدولة من جديد، وتحويله من عبء الى أداة صالحة لتطبيق الأفكار
الإصلاحية الجديدة.
وللحق، فإنني لم أنتظر حباً في الانتظار، أو تغزلاً
في الأوهام، بل استندت فيما فعلت وأفعل إلى قاعدة ذهبية في فكرة الانتظار نفسها،
تتمثل في أن هنالك قادمين جدد من تنفيذيين أتت بهم تفاعلات ونتائج التغيير السياسي
الذي وقع، بفعل ثورة شهد بها القاصي والداني ضد نظام متجبر وشرير استباح الدولة،
وحولها إلى حظيرة مفتوحة الأبواب لغزو الفاسدين، وأصحاب أجندة النهب لثروات،
وخيرات البلاد.
انتظرت وبنحو حقوقي بوصفي مواطناً
أولاً وأخيراً، من الطاقم الجديد بقيادة ربانه السيد الدكتور عبدالله حمدوك،
وبجانب البرنامج الإصلاحي المشهر من جانبه، المشتمل على عشرة أهداف معلنة: العمل
على إزالة أوضح مشكلات جهاز الدولة والمتمثلة في مكافحة الفساد، والبيروقراطية
داخل جهاز الدولة. فبجانب العمل الموكل إلى لجنة تفكيك التمكين التي تقوم بعملها
حتى الآن على الوجه الأكمل رغم التأخير والبطء، توقعت الإعلان عن خطة إصلاحية
دقيقة تهتم وتعنى بمراجعة تشكيلة المؤسسات المدنية من وزارات، ومصالح، وهيئات
حكومية بإعادة إنشائها من جديد؛ حتى تنسجم وتتواءم مع الرغبة في التغيير والتطور.
كما أشرت في مقال سابق جاء بعنوان: “العقار
الشرير” إلى أن سلطة الإنتقال قد أدخلت حكومتها الجديدة داخل أبنية وعقارات
الدولة القديمة التي كانت قد شيت على أهداف وأفكار ونوايا غير التي أتت بها السلطة
الجديدة.
ولكن فجميعنا يشهد أن الربان
وطاقمه لم يبذلوا القدر المرجو من التمايز والاختلاف فيما يتصل بإجراء التعديل،
والتصحيح المطلوب. فحتى الآن يتم العمل بوزارات، ومصالح، وهيئات قديمة قدر لها لعب
أدوار ما عاد من العقل والحكمة الاستمرار في لعبها.
وكمثال لذلك، أشير -وبكل الأصابع- الى وزارة شؤون
مجلس الوزراء كوزارة اقتضت فكرة إنشائها خلو منصب رئيس وزراء لأكثر من عقدين من
العقود الثلاثة للحكم المباد. وعندما تزايدت الضغوط على الرئيس المخلوع لأهمية
تعيين رئيس للوزراء لم يقم بالخطوة المطلوبة بعد التعيين، وهي إلغاء هذه الوزارة،
وتوزيع الهيئات التابعة لها، كجهاز شؤون المغتربين كمثال الى وزارات أخرى، أو حتى
تمثيله بوزارة ذات مسمى جديد يحمل اسم وزارة الهجرة والمهاجرين والاستثمار.
إن وزارة بهذا المسمى تغدو المفتاح لحل الكثير من
القضايا والمشكلات الاقتصادية، لتتولى -ضمن مهام أخرى – عمل خطط اقتصادية ذات
منفعة عامة، وفي مقدمتها إنشاء شراكة قابضة بين الحكومة والمهاجرين؛ بفتح
الأسهم، وأن تكون للحكومة نسبة لا تتجاوز 20% فقط، ولتصبح الشركة نفسها مشروعاً
ابتدائياً يتبعه إنشاء البنك المشترك، والمصانع والشركات الفرعية، وتعم
الفائدة كل الاقتصاد الوطني والحياة
الاقتصادية.
100 ألف سهم
بسعر الواحد ألف دولار يمكن أن توفر لنا 100 مليون دولار كبداية. وتتطور العمليات
الاستثمارية من بعد ذلك، وتعود بفائدة سنوية للمساهمين ما بين 10% إلى 20%
بالدولار.
أهم شروط الإنشاء يجب أن تشمل
التوافق على أهمية وضع نسبة مئوية ممتازة من الأرباح للمسؤولية الاجتماعية
والثقافية. ولنا ان نتخيل مدى الاستفادة التي ستكون بعمل البنيات والمنظومات
التحتية لذلك من قاعات مسرحية وموسيقية وتشكيلية وسينمائية ومتاحف ومكتبات، مع تحسينات
نوعية للبيئة وشكل المدن.
أما الفائدة من المسؤولية الاجتماعية،
فستذهب لدعم الفقراء والمحتاجين؛ بالقيام بمشروعات ربحية حقيقية، وليست كمائن للزج
بهم في السجون ومرمطتهم.
ما يدفعه المهاجرون من مساهمة
وطنية وزكاة أمر غير مقبول تماماً؛ إذ ظلّ لا يذهب للخدمة العامة أو لتحسين
الخدمات، كما ثبت أن أخذه يتم بالتهديد بعدم المغادرة.
الزكاة كمثال لذلك القمع
الممنهج، لا يجوز ان تنوب فيها الدولة عن الفرد، بقدر ما يسأل الفرد عنها من الرب،
وليست الدولة.
نعم، لقد كتبت وخاطبت مفصلاً
في ذلك السيد رئيس الوزراء، ولكن لا علم لى كما لا علم لآلاف السودانيين ممن
يخاطبونه بأفكار واقتراحات بمصير ما كتبت وما يكتبون.
تبقى حتى اللحظة وزارة شؤون الوزراء ضحكاً على
العقول في ظل وجود رئيس للوزراء، وكان من الواجب عليه تحويلها وتسميتها برئاسة
مجلس الوزراء، كما ظل الأمر طيلة التاريخ التنفيذي لمهام رئاسة مجلس الوزراء
والرئيس.
إن وجود وزارة بهذا المسمى
وكمركز تنفيذي، وكلاعب وسط متقدم بالأعباء المتعارف عليها وما حمله ظهرها من مهام
معلنة ومهام مسكوت عنها، يغدو أحد علامات البيروقراطية التنفيذية المقننة الصارخة
المضادة للبحث عن رشاقة مفقودة في الجهاز التنفيذي.
أذهب بعد ذلك إلى وزارة كالحكم الاتحادي، التي –
كما نعرف جميعاً- هي وزارة اقتضت ظروف تأسيسها السياسات التي اتبعها النظام السابق
بتوسيع صلاحياته في خلق التدابير الأمنية لتمكين قبضته على البلاد، بتزامن مع
توسعه سيء السمعة، وولغه في الحروب الأهلية، مما دفعه لزيادة مطّردة في إنشاء
الولايات الجديدة دون حساب لجودة تمثيل الدولة بتلك الأنحاء والمواقع الإدارية
المضافة كحكومات ولائية لها ما لها من أعباء متفاقمة على خزينة وميزانية الدولة ،بما
تنطوي عليه من وظائف تنفيذية، وترهل لا تخطئه العين.
أما أفدح أخطاء التفكير التنفيذي، فقد تمثّل في
إعادة الاضهاد التاريخي القديم للثقافة.
مثلت الإنقاذ، وبسوء نوايا
مكشوفة، الثقافة بوزارتين هما الثقافة والسياحة، ووزارة التخطيط الاجتماعي لضرب
النسيج الثقافي الاجتماعي التاريخي المكتسب، وتنفيذ خطة شريرة أسمتها بإعادة صياغة
الإنسان السوداني. ولكن كانت المفاجأة غير السارة في أن تحولت الثقافة إلى سلاح إستراتيجي
في معركة إسقاط نظام الإنقاذ في الميدان الذي اختارته للإعاقة الوطنية، ولتعلن
الثقافة عن نفسها بنحو جبار وساحق في تحقيق ثورة ديسمبر، حينما أسهم عبر تلاحم
فريد وتوظيف مبتكر لثقافة السلمية عبر شعاراتها، وأهازيجها، وأشعارها، وموسيقاها،
ومنحوتاتها، وتشكيلها، وصورها التوثيقية، وأخير إشهارها أخلاقاً غجتماعية قالت
لمشروع صياغة الإنسان لا، وعبرت عن فشله الذريع، وسقوطه الداوي؛ فحولت الدمار إلى
اعمار شهد له كل من زار ورأى اعتصام جماهير شعبنا الباسل وتفاصيل انتصاره.
أقول وبدون مواربة إن الجهاز
التنفيذي قد خان الثقافة وطعنها في خاصرتها أكثر من أي حكومة جاءت بعد الاستقلال.
هنا بالاستطاعة إدانة كل الجهاز التنفيذي بطاقمه وربانه بأنهم لم يستثمروا في هذه
الطاقة السحرية، ويحولوها إلى مجلس يضم كافة الأقاليم الثقافية السودانية؛ ليغسل
ستين عاما ونيف من من سلطة الخطأ المنتجة للحروب الأهلية والتقسيم الاجتماعي المنظم،
الذي كان قد انطلق أساساً من عدم العناية الكافية بالتنوع الثقافي، والحقوق
الثقافية لأهل السودان. لقد تم ضمّ الثقافة إلى الاعلام في وزارة لا تزل تعلن عن إعاقة
متعمدة، ونصيب الأسد من خيبات الحكومة الانتقالية، وما تقدمه من خدمات مجانية
للقوى المضادة، بعد قيامها بواجباتها التأمينية للثورة من الآلة الإعلامية الغاشمة
للنظام السابق.
ما كان للجهاز التنفيذي إقامة وزارة للاعلام إذا
أراد خيراً بالاعلام، والثورة، بل كان الأولى إنشاء مجلس أعلى تتمثل فيه قوى
الثورة الاعلامية الجديدة كافة، يهتم بوضع الخطط والسياسات الإصلاحية على مستوى الإعلام
التقليدي والإعلام الحديث المناصر للثورة وتعطيل اقتصاد الإعلام المضاد.
أخلص إلى أن هنالك- وبدافع
غيرة السودانيين على بلدهم وثورتهم- كثيراً من المبادارات الأهلية والتخصصية التي
تمت عبر التجمعات المتنوعة بالداخل والخارج، وأن الإعلام التقليدي والحديث الممثل
في السوشال ميديا يفيض بالأفكار الراغبة في تحسين المنتج من الأفكار التنفيذية
التي من الواجب أن تجد طريقاً الى الجهاز التنفيذي ليس بواسطة (القوالات) أو
(الشمارات، كما يقال)، أوالانتقال الخبري الاجتماعي الشعبي للسيد رئيس الوزراء. ولكن بواسطة اتخاذ خطوة جريئة
وشجاعة من جانبه تتمثل في الاستفادة من عضوية مكتبه ممن نثق في امكانياتهم من من
الجنسين، بأن ينكب جزء منهم في مهمة تجميع وفرز الأفكار الحميدة المتوزعة بالميديا،
ووضعها كاقتراحات لتحسين أداء الجهاز التنفيذي، وأن تسمى تلك العملية ببنك الأفكار،
بجانب إعطائهم الصلاحية في تنظيم الورش والتجمعات العلمية المتخصصة التي تدفع
بأعمالها ونتائج عصفها إلى ما أقترح بتسميته بمجلس التخصصات المهنية، الممثل بكافة
السودانيين الأكفاء بالداخل والخارج، على أن يتكون وفق وصفة بيانية دقيقة تضم كافة
السودانيين القادرين على رفد الدولة بالأفكار التنفيذية الصالحة.
هنا لن يجد السيد حمدوك
معضلات بالمعنى، ولن يحتاج إلى أخذ المشورة الخاطئة من الأشخاص (الخطأ) ممن ترمي
بهم الأقدار في طريقه.
هنا سيجد الدكتور عبد الله
نفسه محاطاً بالأفكار المبتكرة والذكية من كافة أبناء بلده الموجودين على خطوط
الدفاع المهني عن الجهاز التنفيذي، وهذا ما يجعل مهمته في المتابعة لأداء وزرائه
مهمة سهلة ونزيهة، عندما يصبح الانفتاح على الأفكار الجديدة ميثاقاً وطنياً بينه
وبين الشعب الذي ينتظر نشاطاً أكثر منه وحضورا باهياً، زاهياً، وقوياً أشد مما هو
عليه، وأصدق بياناً وفعلاً.