لماذا وكيف أصبحت صحيفة النيويورك تايمز هي المرجعية الإعلامية التي تتسيّد القمة المهنية ، بلا منازع ؟
ليتني علمت الاجابة السحرية فلربما ظفرت بجائزة المليون !
لكني أكاد أن أجزم بأن التقرير الذي تصدّر الصفحة الاولي لصحيفة النيويورك تايمز هذا الصباح يشتمل علي جزئيات متطايرة من تلك الاجابة المعقدة. ة . .
اليوم قرر محررو التايمز، وهذه كنية التصغير والدلع لهذه الجدة التي لا تهرم ولا تتثاءب رغم عمرها البالغ 169 عاما ( 18 سبتمبر 1851)، قرروا إستحداث تقرير تفاعلي يزاوج ما بين تقنيات الشروحات البيانية والإحصائية وأرقام الوفيات الصماء لضحايا فيروس الكورونا .
النتيجة ؟ بعث افتراضي بطعم الحقيقة للموتي بطعم الحقيقة رغم أنها لم تنشر إلا أسماء ألف من مائة ألف قضوا بالكورونا! وانت تقرأ هذا التقرير التفاعلي ستنهض حواسك وينتصب أنفك فتتنفس رائحة الموت، وستتعثر عيناك بين حفر أسمنتيات شواهد القبور وتتلخبط الساق بالسا . ستقسم وأنت تقرأ بأنك تري موتي الكورونا ينزعون أقنعتهم المتربة وكماماتهم المهترئة وينتفضون من مراقدهم كلما نقرت علي ماوس الحاسوب، فتراهم يشخصون في رحلة العودة الي عالمنا المعاش! ستشهدهم يتقافزون نهوضا بين القبور كما نهضوا ذات مرة مع مايكل جاكسون في إسطوانته الأشهر Thriller “الثِيلِرر” ! في تقرير التايمز يعود موتي الكورونا بوجوههم ذاتها وقسماتهم ذاتها، وحكاياتهم التي قُبرت معهم!
تقرير هذا الصباح فاجع، فهو يأتي بقصص موتي تفوق أعدادهم السعة الاستيعابية لأكبر إستاد رياضي في مدينة نيويورك ” أستاد ورشارد بارك” لبذي تبلغ طاقته الإستيعابية 72 الف نسمة. ولأن حشد جثامين ضحايا الفيروس اللعين يناهز اليوم 100 الف نسمة، سيتعذر أن فلن نجد سوي داراً رياضية واحدة في كل أمريكا يمكنها إستيعاب هذا العدد المخيف من الموتي . هذه الدار هي أستاد ميتشغان في مدينة آن آربور وتبلغ طاقته حوالي 108 الف، وهو الأكبر في كل أمريكا والثانية في العالم!
قصة اليوم ستحقن ظهرك بشيء يسري متمهلا في ظهرك، سيصيبك بإحساس لاذع وسيرتجف قلبك! شئ هو بعضٌ من تضاد: تيار كهربائي صاعق و ملعقة مثلجة من باسكن روبنز! سينساب هذا الشئ مسرعاً عبر مجري عصارة النخاع الشوكي فيلغي دفاعاتك ويجعل قلبك يتوثب للقفز من قفصه!
قصة موتي الكورونا في هذه البلاد موحشة وصادمة. فالارقام تقارب الضعف الحسابي لقتلي أمريكا من مغامريها الشباب في فيتنام، وقد بلغت أعدادهم 58,220 قتيلاً خلال 18 عاماً من حرب دموية كان مسرحها غابات فيتنام وسلاحها كل شيء مدمر بما في ذلك النابالم الحارق (الأول من نوفمبر 1955 – 30 أبريل 1973م) . كانت فيتنام رقماً قياسياً لزمان ما قبل موت الجملة في العهد الكوروني غير المسلح، تخيلوا 100 الف نسمة يبتلعهم باطن الأرض في أقل من 3 أشهر، تسللوا لمقابرهم بلا رفيق أو أنيس عند الوداع، وبأمر القانون!
في هذا الصباح الغائم في مقبرة الجندي المجهول في “آرلينغتون”، وبينما أمريكا تحبس أنفاسها وهي تتهيأ لتخطو الخطوة الأولي خارج أسوار بيت العزلة القسري لداء الكورونا، خرجت النيويورك تايمز لترصد بمهنية بديعة نبض المجتمع المتوجس من هذا الخروج المبكر، واحتمالات عودة طاحونة الموت لتهرس ألوفاََ جديدة ورئيس يستعجل التسابق مع كورونا للفوز بانتخابات في نوفمبر تسلط أصابعه علي الدنيا لأربع سنوات قادمة من مرجيحة التوتير العبثية ! فخلال 88 يوماً، حقق الموت الزؤوام ما عجز عنه في حرب فيتنام من منظور الأعداد والمدي الزمني!
قصة بدأت فصول مأساتها بموت شخصين يوم 26 فبراير الماضي في مدينة سياتل، وبعدها انفتحت البوابات فتسللت الألوف المؤلفة لباطن الأرض، وتسابقت سيارات الإسعاف، وشكّلت صافراتها سيمفونية جنائزية أصابت حتي القطط الضالة بالذعر.
اليوم تفتح أمريكا نافذة علي المجهول وتحاول تطبيع علاقاتها مع وحش الكورونا علماً بأن الموت لا يزال علي فتكه وبطشه وزئيره ونهمه؛ “هل من مزيد” وقائد التوتير لا يحركه شئ سوي همومه الانتخابية .
مَنْ غير “التايمز” يتمتع بقدرة بلوغ مكان الحدث ، رغم الحظر؟ من غيرها يتوفر علي عدسات ناطقة وتقنية تزاوج الحروف بالتكنولوجيا فتعطي وصفا واصفا لسكرات الموت الجماعي وما يتنازعها من اللا منظور واللا معروف؟
لا أحد!
كان علي النيويورك تايمز الاجابة عن سؤال مستقبلي :كيف ستتفاعل امريكا الثاكلة مع مباهج موسم الاختلاط، والشباب والحب بلا حدود وزخم الصيف البديع؟ كيف لأرملة بنصف دمعة، لم تجف، علي بخد طري، ان تستجيب لدعوات متع عشق شمس الصيف وقاتل حبيبها ينتظر هناك، وبكامل سلاح ، متحفزا عند مداخل الديسكو والبيتش والمطاعم والباربكيو مبحلقاً في الحضور الأنيق، وقد تزيّا بخلع معطفه الشتوي وملص للإغراء بشورت برومودا، فيخوض مع الخائضين، وينشر فيروسه بأريحية بائع النعناع؟ هل ستخرج أمريكا وتنسي موتاها ونفسها، ام ستظل علي جرجرة خطاها ترددا وترقبا بعد أن تيقنت أن رئيسها نصف معتوه وبعقل مضطرب؟
عطفاً علي السنوات الثلاثة الماضية من حكمه، ادركت أمريكا أن تجاربها مع ترمب لم تكن سوي قيادة طفولية بائسة موغلة في النرجسية وحب الذاته وجنون العظمة الذي يسكن نافوخه ولسانه. الخلاصة أن أمريكا غدت محصنة من قفزات وسقطات ترمب اليومية، فقد تعايشت معها لدرجة التحصن ضدها.
عرضت النيويورك بيانياً هذا الإهمال والفراغ القيادي، فالشارع الأمريكي يعلم ان شرخا يصيب عصا الغولف التي يتوكأ عليها في ميادين فنادقه يمارس هواية الغولف، الأقرب لقلبه، لهي أكثر إيلاماً له من شهقة مريض في العناية المركزة!
في بحثها عن إجابة عن موعد انحسار سيارات الجنائز الكاديلاك السوداء الفخمة ، ( الهيرسات Hearses) بخطاها الوئيدة ، فإن النيويورك تايمز اختصرت السؤال بما فعلته اليوم ووقعت إمضاءها عليه، وتركت القناديل مشتعلة أملا وتوقعاً!
aamin@journalist.com
25 مايو 2020 م