لا أحد يمكن أن يتجاهل ما لحزب الأمة
القومي من ثقل جماهيري في بلادنا، كما لا يمكن لأحد أن يقلل من دور الحزب الشيوعي
السوداني في الحركة الوطنية، من قبل الاستقلال إلى اليوم، على الرغم من عدم اتساع
حجم عضويته، ومن ثم، لا يمكن لأي منهما أن يلغي الآخر وينال منه بالخطب الرنانة،
وبالإساءات التي تتجاوز الحدود في بعض الأحيان.
ولأن أي نشاط في أي اتجاه يشوبه الإخفاق في
بعض الأحيان، فإن ممارسات أحزابنا خلال مسيرتها الطويلة كان فيها كثير من الإخفاق،
وكثير من سوء التقدير، وهذا أمر طبيعي، ولكن من غير المقبول أن تصبح هذه الممارسات
محل محاكمة وإصدار حكم، في وقت نحتاج فيه إلى توجيه الطاقات لإعادة صوغ هذه
الأحزاب؛ بالاستفادة من الخبرات المتراكمة، والتجارب القاسية التي تعرضت لها في ظل
ديكتاتوريات حاولت تدجينها، والنيل منها، ومن قياداتها.
ولا ينكر إلا جاحد أو غافل ما كان لأحزابنا
من دور كبير في ثورتنا المجيدة، إذ كان اصطفافها داعمة لها من أسباب نجاحها،
وخصوصاً أن شبابها كانوا في قلب الحركة الشبابية متناسين انتماءاتهم، وموجهين
جهودهم نحو تحقيق شعار “تسقط بس”.
وعلى النحو الذي اختلف فيه السودانيون قبل
الاستقلال حول خياري الاستقلال والوحدة مع مصر، ثم اتفاقهم جميعاً في لحظة تاريخية
على الاستقلال، اختلفت الأحزاب في سياستها في التعامل مع النظام البائد بين
“الهبوط الناعم” و”المواجهة مهما كان الثمن”، وكان لكل طرف
مبرراته، إلا أنها اتفقت أيضاً في لحظة تاريخية على “الاقتلاع من
الجذور”.
ولا يمكن إغفال دور نداء السودان وقوى
الإجماع في مقارعة النظام، وفي التمهيد للثورة، والمشاركة فيها، وفي تكوين قوى
الحرية والتغيير التي أصبحت الحاضنة للثورة.
وأذكر هنا بكل إجلال وتقدير دور المناضل
علي محمود حسنين، الذي شكّل الجبهة الوطنية العريضة،
وتمسك بإسقاط النظام، وعدم الحوار معه، فكان من أوائل الذين رفعوا شعار “تسقط
بس”.
ما أريد أن أصل إليه أن لا حياة سياسية من دون أحزاب، وأن لا
مجال للحديث عن “حرية وسلام وعدالة” إلا ببرامج سياسية تتبناها هذه
الأحزاب، ومن ثم، لا يستقيم عقلاً أن تهدر الأحزاب وقتها وجهدها في مناكفات، وفي
أخذ ورد، وقراءة انتقائية للتاريخ لينتقص كل حزب من الآخر، في حين أن عليها
مسؤولية الإعداد لاستئناف الحياة الديمقراطية التي ظل يتطلع إليها هذا الشعب
العبقري الرائد، دافعاً ثمناً غالياً من دماء أبنائه الزكية.
كما أن عليها مسؤولية دعم الحكومة الانتقالية التي تمشي على
الأشواك، وتتربص بها وبكل التغيير الذي حدث فلول النظام البائد، التي ما زالت
تمتلك القدرة المالية، وإمكانات التآمر من وراء الستار، إلى جانب الشوق المعتاد
للعسكر إلى السلطة، وتوهمهم أنهم الأجدر بحكم البلاد، على الرغم من موارد الهلاك
التي كانوا سبباً فيها على مدى أكثر من 50 عاماً، من أصل 64 عاماً من الاستقلال.
ولعل ما قام به حزب الأمة القومي من تجميد لأنشطته في هياكل قوى
الحرية والتغيير وتجاوب القوى السياسية، وتحركها لفهم الأسباب، والحرص على إعادته،
يمثل فرصة للمراجعة والتقويم، والاعتراف بالأخطاء، وأهمها المنهج غير السليم في
شغل المناصب، والاعتماد على العلاقات الشخصية أكثر من القدرات الذاتية، والمسارات
المعرقلة لعملية السلام، التي اقحمت إقحاماً، وطرح شعارات تصلح أن تكون برامج
سياسية لا نصوصاً دستورية، والتأخر في تشكيل المجلس التشريعي، وتعيين الولاة وفق معايير تحقق أشواق
الولايات وتطلعاتها في البناء والتنمية.
إن جائحة كورونا وما أحدثتها من تأثيرات في المستويات السياسية
والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما أوجدته من مفهوم تشكُّل عالم جديد بعدها،
يمثل سبباً قويّاً لأن تعيد الأحزاب مواقفها وسياساتها وبرامجها، وأن يكون شغلها
الشاغل حماية المسار الديمقراطي، وإنجاح الفترة الانتقالية على صعوبة التحديات
التي تواجهها، ولعل دعمها في تحقيق العدالة، والاقتصاص لشهداء الثورة، وإزالة
التمكين، والإسراع في محاكمة رموز النظام البائد من أهم الأولويات التي يجب أن
تحشد لها كل إمكاناتها وقدراتها، أما التدافع بالمناكب من أجل نيل ثقة جموع الشعب
فلم يحن موعده بعد.