إعترف حميدتي في لقائه التلفزيوني بأنه وبقية أعضاء المجلس العسكري هم الذين حالوا دون تعيين مرشحي قوى الحرية والتغيير لمنصبي رئيس القضاء والنائب العام وهما على التوالي الأستاذين عبدالقادر محمد أحمد ومحمد الحافظ محمود، وهي حقيقة كنا نعلمها ولكن حسناً فعل حميدتي بهذا الاعتراف العلني بما يعزز من حدوث التوثيق القاطع لتاريخ الثورة.
وفي تفسير رفض تعيين المجلس العسكري للمذكورين، ذكر حميدتي بأن ذلك يرجع إلى أنهم بالمجلس تلقوا تقارير تفيد بأن المرشحين من (الناشطين السياسيين).
هذا تحجّج وليس حجة، فلا خلاف حول ضرورة توفر شرط الإستقلال السياسي فيمن يترشح لشغل الوظيفة القضائية (قضاء ونيابة)، والمعنى المقصود بالاستقلال هنا هو عدم الإنتماء المعلن والواضح للمرشح لمثل هذه المناصب لحزب أو جماعة سياسية أو لكيان له إعتقاد مذهبي أو طائفي أو ديني بما يضمن الحياد. لكن ذلك لا يعني أن يكون المرشح في حالة إنفصال عمّا يجري في وطنه، أو أن يكون شخصاً عديم رأي ورؤية في قضايا مجتمعه، أثناء وجوده كفرد عادي وعضو في المجتمع وهو غير مقيّد بضوابط وظيفة لا يشغلها.
والواقع أن العكس هو الصحيح، فالشخص الذي يتحلّى بمثل هذه الصفات (أي الذي يكون منفصلاً عن قضايا وطنه ويفتقر للرأي والرؤية حول قضايا مجتمعه) لا يكون جديراً بالوظيفة العامة لا بالقضاء ولا النيابة ولا بالمجلس البلدي ولا لشغل وظيفة ملاحظ أسواق.
في ضوء هذا التوضيح، الثابت أن عبدالقادر ومحمد الحافظ لا يمارسان أي نشاط حزبي، ولا ينتميان بشكل ظاهر او خفي لأي كيان مما ورد بعاليه، ووصمهما بصفة الناشطين لمجرد أنهما يقومان بالتصدي لقضايا الحرية والدفاع عن ضحايا النظام وموالاة الكتابة التنويرية في وسائل النشر المتاحة بمسائل إستقلال أجهزة العدالة… إلخ، فهذه أسباب من شأنها أن تزكيهما للمنصبين، لا أن تحجبهما عن هذه المناصب.
ثم، أن شرط عدم ممارسة النشاط السياسي كما هو مطلوب في المرشحين لشغل منصبي رئيس القضاء والنائب العام، فهو نفسه الشرط المطلوب توفره في بقية القضاة وأعضاء النيابة، وكذلك في أعضاء لجان التحقيق التي تُعهد إليها سلطات النيابة العامة، ولم يرفع أحد يده بالاعتراض داخل المكون العسكري على وجود القضاة ووكلاء النيابة المسيّسون والنشطاء الأوفياء للنظام البائد، وكذلك لم يطبق هذا المعيار في الأستاذ نبيل أديب عند إختياره لرئاسة لجنة تحقيق لجنة أكسبته صفة وكيل النيابة على الرغم من أن أديب أوسع نشاطاً على الميدان من عبدالقادر ومحمد الحافظ.
لكننا نرجع ونقول أن اللوم لا يقع على المجلس العسكري، فللمذكور حساباته وتقديراته التي قد لا تكون بالضرورة متفقة مع أهداف الثورة، ولكن اللوم يقع على قوى الحرية والتغيير التي تخلت دون أدنى مقاومة عن مرشحيها عبدالقادر ومحمد الحافظ بمجرد إعتراض المجلس العسكري عليهما، ولم تدافع من موقعها كجهة مؤتمنة من الشعب على مصالح الثورة عن ترشيحهما، وطفقت بمجرد إبلاغها بالاعتراض تبحث عن مرشحين آخرين يكون لهما الحظوة والقبول لدى المجلس العسكري.
وما يؤسف له أيضاً أن قوى الحرية والتغيير لم تكن تدري أنها وبمثل هذا الإستسلام السهل سوف تتسبب في إجهاض، وقد حدث، أهم أهداف الثورة وهو إنفاذ العدالة العاجلة في جرائم النظام التي كان ينتظر تطبيقها مئات الألوف من الضحايا والمظاليم طوال الثلاثين عاماً المنصرمة.