هناك مفردات وعبارات في العامية السودانية، بليغة وحبلى بالمعاني، تلامس أوتار قلبي، وصرت أخشى عليها من الاندثار، بعد أن صارت مفردات وعبارات مثل سجمي وكُر، وبرجاك في محل يوم داك، وا شريري وجيدن جيت، “بلدية”، ولا تليق بالمتحضرين ال”كووول”.
وفي نظري، فإن السوداني الذي يقول/ تقول “بريدك/ أريدك”، أكثر صدقا من قائل “بحبك/ أحبك”، بل إن شاعرا مجيدا كالطاهر إبراهيم، يرى أن الحب شيء، والريدة شيء آخر، كما في قوله على لسان محمد وردي: “حرّمت الحب والريدة”، ثم هل من عبارة حب أقوى تأتيك من امرأة من “ود أمي”، وما أحلاها عندما تصدر من امرأة لا تمت إليك بصلة قرابة، فبها شحنة هائلة من الحنان والود الصادق. وعندك “كبدي.. مصراني” ومرواد عماي/ دخري وغطاي، وضلي وضراي (قلت لصديقي ان من أجمل ما قيل في الغزل قول محجوب شريف: يا صبية الريح ورايا خلي من حضنك ضرايا- في قصيدة “جميلة ومستحيلة” فقال لي الضراها بيحجز الريح دي جميلة ومستطيلة) وكانت الكلمة التي تطربني عندما تخاطبني بها أمي أو خالتي النوبية “يويوني”، ولن أفسدها بالترجمة، وباختيارنا لكلمة حبوبة اسما للجدة، تفوقنا على سائر الشعوب الناطقة بالعربية، في شرح مكانتها في مجتمعنا وقلوبنا، وهل يرفض سوداني أصيل طلبا لواحدة تقول له: أموت ليك / تدفنِّي؟ طبعا هناك شابات يفضلن الموت على النطق بمثل تلك العبارات، وديل ناس “ماي بيبي” للحبيب، ولو قالت بنت للمحبوب “بيبي”، قبل نحو ثلاثين سنة لصالح فيها: البو ال ينفخك.
وأغنيات هدهدة الأطفال (اللولاي)، ولاحظ أن هذه الكلمة السودانية تشبه لفظا نظيرتها الإنجليزية للاباي lullaby) عندنا بديعة الكلمات والإيقاعات، وكثير من النساء يؤلف اللولاي الخاص بعياله، بينما اللولاي المتوارث عبر القرون هو: النوم تعال سكت الجهال/ النوم النوم ولدي الغالي/ النوم النوم يستر حالي / النوم النوم بكريك بالدوم (معظم أطفال مدننا لا يعرفون الدوم، أو حلاوة لكّوم، ولا معنى الضربة “أم دلدوم”) دا طبعا لما كان الدوم من الفواكه
ومن المفردات السودانية التي تلمس شغاف قلبي كلمة “هيلي” بمعنى ملكي، وهل قيل في قوة الانتماء الى الوطن أجمل من “بلداً هيلي أنا”، وهل هناك عبارة تلين حتى القلب الصخري مثل “أعفي لي”، وعافي ليك وعافي منك وعوافي، وما إحساسك لو قالت لك قريبة لك: نور الضلمة، وليد ناس يمه؟ إذا كنت ذا حس سليم سيصاب رأسك بالاستسقاء من فرط السرور (والسوداني الأصيل عنده “كذا” أم، وقد تكون إحداهن جارة ليس إلا).
تعالوا نرصد ذخائر عبارات الود والمحنة العائلية والاجتماعية فما أحوجنا إليها في ظل سيف الكورونا المسلط على رقابنا.