من المفارقات الغريبة أن السودان كان من أوائل الدول التي عرفت طريق الثورات الشعبية المطلبية، في حين فشل ساسته في ترجمة المطالب الشعبية إلى واقع ونموذج يحتذى به في المنطقة العربية والأفريقية، أو حتى لواقع يرضي طموحاتنا.
أسهب د. منصور خالد (عليه رحمة اللّٰه) في كتاباته الباذخة عن فشل النخبة السودانية ولكن – في اعتقادي الشخصي – أنه فشل في تحديد أصل العلة؛ لأنه جنح في كتاباته إلى انتقاد الأشخاص أكتر من انتقاد المنهج.
مرّت علي قبل أيام في تويتر تغريدة مطروحة للنقاش للبروفيسورة فدوى عبدالرحمن علي طه، مديرة جامعة الخرطوم، تسأل فيها: “هل التوجه العروبي لسياسة السودان الخارجية أضرَّ بنا كدولة؟ وهل كان الأفضل التوجه نحو أفريقيا؟!!” وكالمعتاد كانت معظم المداخلات تردد المقولة السائدة أنه “السودان كان بإمكانه أن يكون أفضل الأفارقة، لكنه اختار طائعاً أن يكون أسوأ العرب”.
في اعتقادي إن هذا تشخيص خاطئ للمشكلة، وبالتالي، يقودنا إلى معالجات خاطئة؛ لأنه الخلل الأساسي ليس في توجه السودان عروبياً أو أفريقياً، وإنما في انشغال ساستنا بالأيدولوجيات، على حساب التخطيط الإستراتيجي القومي، وبالتالي توجهنا أفريقياً كان سيؤدي إلى النتيجة الحالية نفسها.
لو حاولنا نستفيد من تجارب الدول التي كانت منهارة، ونجحت في إنها تنهض،مثل: اليابان بعد الحرب العالمية التانية أو ألمانيا بعد الحرب الباردة، سنجد أموراً مشتركة بينهما، هي التي أسهمت في نهضتهما. أول هذه الأمور المشتركة هو اعتمادهم على التخطيط الإستراتيجي القومي الذي من خلاله حددوا الرؤية والأهداف العامة، ومعالم الطريق الذي يحكم سياساتهم الداخلية والخارجية، والتحديات المتوقعة التي ستواجههما في تشكيل مستقبلهما المنشود.
التخطيط الإستراتيجي القومي هو الركيزة الأساسية التي بتسهم في تحديد المسار الإستراتيجي للدولة، وتقوية القدرات التفاوضية الوطنية، وترقية الأداء السياسي، والتخطيط الإقتصادي، وفي وجود رؤى وطنية للمصالح الإستراتيجية للدولة.
وجود الرؤية (vision statement) في التخطيط الإستراتيجي القومي عنده أهمية بالغة في تشكيل العقل القومي، وحشد قوة الدولة في تنفيذ الإستراتيجية، التي تشمل تأسيس الشراكات بين الحكومة والشركات الخاصة ومنظمات المجتمع المدني.
كانت اليابان بعد الحرب العالمية الأولى لديها رؤية واضحة، وهي أن تكون الدولة الأولى في صناعة الفولاذ stainless steel في أول عشر سنوات بعد الحرب (1950م – 1960م) رغم إنها كانت تفتقر إلى المواد الخام التي تحتاج إليها في صناعة الفولاذ، وكانت تستورد المواد الخام من أميركا اللاتينية، ونجحت فعلاً في أن تكون أكبر دولة مصدرة للفولاذ في العالم؛ لأن الدولة بكل قطاعاتها الحكومية والخاصة ومنظمات مجتمعها المدني توحدت في تنفيذ الإستراتيجية .
وتوجهت في الستينيات بكامل قوتها الوطنية للإلكترونيات، ونجحت، وفي السبعينيات توجهت لصناعة السيارات ونجحت، وفي التمانينيات اوجهت للكمبيوتر، وأصبحت من أعظم اقتصاديات العالم في أقل من نصف قرن.
يؤدي للتخطيط الإستراتيجي القومي دوراً كبيراً في تحقيق الأمن القومي والأمن الإنساني والمحافظة على البيئة، ويسهم بشكل كبير في فلسفة توزيع الدخل القومي، وتوجيه الزيادة فيه للقواعد الشعبية بدلاً من أن تكون حكراً على عدد محدود من أصحاب الشركات.
الأمر التاني المشترك بين اليابان والمانيا والدول التي نهضت بعد انهيارها، هو إنشاؤها مراكز دراسات عن الأحزاب السياسية، وهذا مهم في بناء نسق واضح للخطاب السياسي مبني على الأرقام والبراهين بدلاً من أن يكون مجرد خطابات رنانة وهتافيات جوفاء.
لو لاحظنا للمخاطبات الجماهيرية لمعظم السياسيين السودانيين سنجدها خالية من أي أرقام، وهذا ناتج عن غياب مراكز دراسات تكون مرجعية.
لا يوجد سياسي في العالم عنده المقدرة ان يبني سياسة حزب أو سياسة دولة بدون ما تكون متوفرة عنده احصائيات ودراسات بالأرقام، ومافي إحصائيات وأرقام ودراسات يمكن أن تتوفر من دون أن يكون لدينا مراكز دراسات متخصصة سواء كانت مراكز دراسات إستراتيجية أو اقتصادية أو سياسية.
الأمر التالت المشترك هو وجود مراكز لإعداد القادة، وهذه دورها كبير في صناعة المستقبل، من خلال تغذية الدولة بقادة مسلحين بالمعرفة والقدرة والمهارة.
مادام قلنا حنبنيهو، يبقى نبنيهو صاح، ونكسر الدائرة اللافين جواها دي من الاستقلال!!
مايو 2020م