كتابات الغرباء عن الشعب السوداني والصفات المخملية التي يتمتعون بها، من صدق وأمانة وشفافية ومصداقية، بقدر ما هي تبعث في النفس الفخر والإعزاز .. بقدر ما هي تبعث الحسرة والاندهاش.
شعب يتمتع بكل هذا الكم الهائل من الصفات الوردية يفشل في بناء دولة حديثة معاصرة!، بل يفشل إلى يومنا هذا في بناء عاصمة حضارية تواكب عواصم العالم المتحضر!، علما بأنه عاش وعرف التطور والتقدم قبل أغلب الدول المحيطة بنا التي أضحت اليوم في الثريا، وما زلنا نقبع في الثرى ..
هل نحن شعب يكتفي فقط بالمدح والتصفيق !! .. إن كنا كذلك .. أقول لكم المدح لن يقدمنا قيد أنملة .. الفخر لن يسمن ولن يغني من جوع .. صراحة نحن شعب غريب الأطوار .. فينا متناقضات عجيبة. نحمل كل الصفاات بألوانها المختلفة، ونظل مكاننا سر .. أين الخلل؟ .. أين العيب؟ أين العلة؟
لا أريد أن أبكي على الأطلال؛ لأن هذا واحد من أكبر أسباب تخلفنا وتراجعنا وانحسارنا «بكاؤنا الذي لم يرفع فراشه منذ أمد بعيد»، وتبخترنا الكبير بصفاتنا المخملية، وإنسانيتنا المتدفقة وكرمنا الدفاق، الذين لم يستفد منهم الداخل السوداني شيئاً في مجالات النماء والتطور والرقي ..
إننا نحتفي ونسعد ايما سعادة عندما يتم وصفنا ونعتنا بهذه الصفات، وإن كنا كذلك.. ولا عيب أن نكون كذلك .. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة: ماذا استفدنا؟ وماذا استفاد بلدنا من جميل صفاتنا الذي نفاخر به في الخارج.. وهو يعاني داخليا التخلف والجهل والقهر؟ أين هذا الصفات من بناء وتعمير السودان؟ كيف تنعكس هذه الصفات خارجياً عملاً وجهوداً جبارة، ونحن في الداخل عكسها تماما، لا نبني ولا نعمر؟ ليتنا لم نبنِ فقط، ولكننا ندمر ونحطم، نفسد ونسرق، ونقسم الوطن مكرمات شخصية بيننا، كنا معاول هدم بجدارة.
ما قدمه علماء وأطباء ومهندسو السودان للعالم الخارجي، لو قدم ربعه للسودان لأصبح بلدا من طراز آخر .. ولكن أقولها لكم بصراحة .. العيب فينا .. لماذا نرضى أن نكون شعباً مشتتاً في المهاجر في كل أنحاء المعمورة، نشارك في بناء ونهضة وتطور دول العالم في كل المجالات؟ نساهم في تنمية كل الاقتصادات السياسية والعلمية والصناعية والصحفية والإعلامية والطبية والعسكرية .. بل إن كثيراً من أبناء السودان لديهم إسهامات وبراءات اختراع شتى في مجالات عملية دقيقة ومتخصصة أفادت البشرية جمعاء، وممهورة بأسماء وتواقيع الدول التي يعملون بها .. لماذا لا نفكر ولو مرة واحدة في حياتنا في بناء سودان حقيقي مترف بالنعم الإلهية التي تحيط به؟ .. لماذا لا نبني سودان السمو والرفعة والتطور والنماء؟
نعم نعلم أنه كانت هناك معوقات. نعلم أنه كان هناك من علّم الناس الفساد وأكل السحت. نعلم أنه كان هناك من شرد الجميع، ونفاهم إلى المنافي البعيدة قهراً وقسراً، وشتتهم في ربوع المعمورة .
والآن، وبعد الثورة المجيدة، آن أوان بناء السودان .. لا عذر بعد المدنية السودانية للحاق بركب المدنية العالمية. على كل عصافير السودان المهاجرة التي تغرد خارج سرب بلدها، أن تعود إلى حضن الوطن بخبراتهم المهولة التي من شأنها النهوض بأمة كاملة، وليست دولة واحدة.
نعم الآن، لقد آن أوان الجد .. هيا شمروا عن السواعد وشدوا الهمم. علينا أن نفكر ملياً في بناء سودان جديد برغبة جادة، .و بخطط مدروسة، وبأفعال حقيقية. فنحن أقرب إلى التطور بما لدينا من إمكانات طبيعية وقدرات بشرية، وعقول فذة، وعلماء مسلحون بالمعرفة والخبرات الحقيقية، وشباب من الجنسين رائد ومتحمس لبناء السودان الجديد .. نعم نستطيع أن نعلي شان السودان ونفرد أشرعة سفنه في أعالي البحار. نعم نستطيع أن نقفز باقتصاده ونضعه في المكان المرموق بين اقتصادات العالم المتقدم ..
أذكّر زملائي في جمعية الصحفيين بتحريك رواكد الشعب الوطنية وهزها هزاً لتنتج لنا عنباً وقمحاً .. نعم فلنشحذ هممهم بكل حوافز الدفع، ولنبث أكسير الحياة وأكسجين التطور في شرايين جسد السودان المنهك، من أجل بناء السودان الأخضر «مارد أفريقيا المتعب» الذي يحق له أن يكون ألمانيا أفريقيا .. وسيكون بإذن الواحد الأحد إذا ما تضافرت الجهود وصدقت النوايا ..
مخرج صحفي، وعضو جمعية الصحفيين السودانيين بالسعودية