التحية والشكر لكل من تحرك متوجهاً إلى جنوب كردفان/جبال النوبة، أو صرخ مستنكراً الأحداث الدامية التي وقعت في كادوقلي في (11مايو 2020م)، إذ قارب عدد الضحايا من المتوفين نحو الستين فرداً أو أكثر، وتركوا خلفهم الدموع والأحزان، والوعد والوعيد المتبادل فيما حدث، وصدور بيانات سالبة أججت خطاب الكراهية، وأشعلت الحرائق بين المتساكنين في رقعة جغرافية تزيد مساحتها على مساحات دول عظمي تتقدم العالم اليوم صناعياً، وتسوسه سياسياً.
وهناك سؤال، فإذا كان هناك متسع في الأرض والموارد لاستيعاب الجميع، فلمَ هذه المغالبة والتشاكس والدماء
التي تسيل الفينة والأخرى؟ نأمل أن لا يكون تحرك المسؤولين في الدولة مجرد عملاً إعلامياً مؤقتاً،
بل نريد إجراءات صارمة في مخاطبة جذور مشكلة انتشار السلاح، وتعدد التنظيمات المسلحة، وسنّ قوانين رادعة لمعاقبة المتفلتين.
درجنا تاريخياً على أن نعلق أسباب الفشل في إدارة ذاتنا بالمستعمر، الذي قيل إنه أورثنا كثيراً من المشكلات والتعقيدات التي
نعانيها اليوم. وفي أحيانٍ
أخرى نربط ذلك بفزاعة إسرائيل والصهيونية
ومخططات التآمر الخارجي، كأنما
السودان هو البلد الوحيد ذو
السطوة الذي يهدد بقاء إسرائيل في الوجود، بل لم يبق لنا إلا أن نقول إنها ايضاً وراء كثير من خلافاتنا الزوجية.
ثم دخل مؤخراً في الخط فوبيا ومصطلح “الدولة
العميقة”. نعم كلها شماعات اصطنعها السياسيون ليعلقوا عليها أسباب فشل إدارة دولتنا.
صحيح كل ذلك قد يكون وارداً، لكن فقط عندما نسمح نحن ونتيح الفرصة للآخر في أن
تكون له أجندة خاصة يمكن أن يستثمرها في وجود خلافاتنا.
قناعتي
أن المشكلة هي في مكون الشخصية والعقلية السودانية، وخصوصاً مثقفيها، مع عدم وجود سلطة عادلة ذات
شوكة. إن تاريخ الحضارات
يقول إن الشعوب والأمم
لا يبنيها الضعفاء أو القابضون
على عصا السلطة من الوسط، فالجبابرة أحياناً هم البناة. ففي مرحلة البناء، فإن قائد الدولة بجانب
العدالة والأمانة يجب أن تكون له أسنان بارزة يراها الآخرون بوضوح ويتهيبونها.
إن مكون سكان جنوب كردفان هو نوبه زنوج وحاميون وعرب ومستعربون.
والبعض ظل يستخدم هذه الثنائيات أو التنوع
لتصنيع الخلافات وإخراجها زوراً، بأنها صراع بين إثنيات. لكن ما يدحض ذلك وجود ذات التنوع في المكون بأماكن أخرى
من الوطن، ويعيشون في سلام. وفي رأيي أن أساس
المشكلة هو بعض أبناء المنطقة المستنيرين، وتغذيتهم بعض الخلافات وهدمهم إرثاً من التعايش الاجتماعي بادعاء التصحيح، وتقديمهم بدائل لم يحكموا موازنتها، وذلك بتقسيم
الناس إلى أصيلين وضيوف وافدين. وكثير منهم هاجر وعاش في الخارج، وأمامهم تجارب الهجرة
واللجوء الى البلاد الأجنبية،
حيث يستطيع الفرد خلال المعايشة لمدة زمنية قد تقل عن الخمس سنوات الحصول على
الجنسية والجواز، وكامل حقوق المواطنة، مع التمتع بكل الميزات بوصفه مواطناً. فلمَ المغالاة في بلادنا بين أصيل ووافد، ونحن المتعايشون معاً لقرون.
بينما الحقيقة الغائبة فيما يتعلق بسكان جنوب
كردفان/ جبال النوبة تقول إن
سكان المنطقة هم نتاج تمازج
بقدوم هجرات من مناطق مختلفة، فمنهم من جاء من جهة النيل الأزرق، ودولة الفونج، وبعضهم ذوو جذور بعيدة بنوبة الشمال، وبعضهم من سكان كردفان
القدامى الذين ورد
ذكرهم في خطط المقريزي،
وهم الأقدم في منطقة
الجبال، بينما بعض النوبة جاؤوا
مهاجرين من السودان الغربي عابرين الحدود،
هذا إضافة الى المكون العربي والمستعرب من البقارة، وغيرهم ممن قدم من اتجاهات مختلفة.
كل هذه المكونات قد جمعتها المصالح، واستهوتهم المنطقة، إما للحماية بتضاريسها الوعرة لظروف سياسية،
أو هرباً من السلطة المركزية،
والغزو، والهجرات
الضاغطة من جهتي الشمال
والغرب، أو للاستفادة
من موارد المنطقة،
ومراعيها الوفيرة. لكن يسجل التاريخ أن سبق الريادة كان للنوبة ممن كانوا في تخوم
المنطقة، وتبعهم في التوافد
البقارة وقبائل أخرى، ومن ثم حدث التعايش والاختلاط والتعريب والنوبنة (Arabization & Nubanization) كما يقول الباحث الأخ دكتور
حامد البشير في أحد
بحوثه الاكاديمية.
بوجود كل هذه الحقائق والحيثيات التاريخية تسيد
النوبة بمكوكياتهم الجبال،
بينما انتشر البقارة
بنظاراتهم في السهول والوديان يرعون مواشيهم؛ لهذا يلاحظ أن في كل الاحلاف والأعراف المعمول بها
بين النوبة والبقارة أن قمم الجبال وسفوحها وما حولها حق حصري للنوبة، بينما تركت السهول التي فتحها
البقارة حقاً مشاعاً بينهم والبقارة. وهكذا انتطمت الحياة في المنطقة
تحكمها المصالح المشتركة،
ونشأت الصداقات والتصاهر تحت رعاية
الطرفين، وطوروها.
صحيح، لقد كانت في البداية هناك بعض العدائيات بين
الطرفين، لكن قادة
هذه المجموعات قد عالجوها عبر سلسلة وسائل وآليات، مثل: الأحلاف
ومؤسسات شيخ الدرب، الذي
يعدّ سفيراً متجولاً لمعالجة المشكلات بين قبائل النوبة فيما
بينها أو مع العرب، وذلك كالتوسط في دفع الديّات والفدية للمختطفين، و أسرى الحروب، أو ديّات حالات القتل، وإعادة المسروقات.
لقد قامت هذه المؤسسات الاجتماعية وأدت وظيفتها
في وقتها بفعالية عالية،
وإن تهكم عليها بعض المستنيرين الذين فشلوا في تقديم البديل الأفضل، بل هدموها بإشعال الحروب، وخطاب الكراهية المتبادل.
عند تحليل هذه الأحلاف والأعراف يجب عدم قراءتها خارج سياق الزمن
والظرف التاريخي الذي تمت فيه. والاحلاف في النهاية هي اتفاقيات يحرص كل طرف مفاوض
في أن يؤمن من خلالها مصالحه. وأحياناً
تحكمها القوة والضعف لطرفي التفاوض، والرغبة في التعايش بتقديم تنازلات هنا وهناك.
وأعتقد أن طرفي التفاوض في ذلك الزمان، وبموجب هذه الأحلاف قد أكدا اعتراف كل منهما بالآخر، بل إن المفاوض من النوبة كان على
قدر عالٍ من الذكاء
والفهم الإستراتيجي.
فكان الجبل وما حوله ذا
أهمية إستراتيجية
بالغة للنوبة من ناحية أمنية وعسكرية، لهذا فقد جاءت نصوص كل الأحلاف متضمنة هذا الحق
الحصري للنوبة؛ لأهميته
كمحيط حيوي لهم. بينما لم يهتموا كثيراً بالسهول؛ لكونها مناطق مفتوحة قد لايحتاجون إليها إلا في عمليات الصيد.
رغم بدائية إنسان ذلك الزمان، لكن جاءت مضامين هذه الأحلاف مستوفية مصالح
الطرفين، ولم يتشدد النوبة ليقولوا إن منطقة جبال النوبة ملك حصري لهم، ولا يسمح للعرب الرعي، أو الوجود فيها إلا بموافقتهم؛ لأن ذلك سيثير عدائيات بين النوبة والبقارة لا نهاية لها في ظل حالة
اللادولة وفضاء الحياة المفتوح. كما أن البقارة قد لا يسمحوا بتعطيل مصالحهم، ومن ثم ستدخل كل المنطقة
في صراع وعدم استقرار.
لكن قيادات
ذلك الزمن عالجوها بحكمة وبُعد نظر. وحتى إن شيوخ وقيادات البقارة قد حملتهم رغبتهم في
التعايش وهم المسلمون
في التنازل والقبول بآلية وثنية كضابط للاتفاقيات، والأحلاف، فكان ما سمي “بحلف الدم” المعروف
تفاصيله.
ومن هنا بدأ اطمئنان الطرفين لبعضهما، ونشأت الصداقات، وتعززت العلاقات فكان
للحوازمة نظارة من ثلاثة لدايا “اثافي”، هي: عبدالعال في منطقة الحمادي والدلنج لحماد اسوسه بيت الحكمة والدهاء،
الذي بنى علاقات ممتدة واثقة مع كل قيادات الإدارة الاهلية حوله، وبشكل مميز مع
حمر والمسيرية. والرواوقه وناظرهم تاور أبو جرده بكادوقلي الذي تعمق في علاقته مع نوبة
جنوب وغرب الجبال. والحلفا وناظرهم نواي الشهير بعود الشقيق، ومن بعده ابنه
المعروف بالزبير قيدوم في امبرامبيطه بالشرقية، الذي حكم بالتسامح، وعزز الإخاء مع النوبة من حوله. وكان
هناك راضي كمبال ناظر ولاد حميد في ابي جبيهة الذي بنى ونسج علاقات بينية عالية
الدقة بينه والنوبة تيرا وأطورو، والقبائل العربية من حوله، وتمدد حتى الشلك في النيل الأبيض. بل كان هناك قامة الإدارة
الاهلية حسين رحمة والد السياسي المخضرم قمر حسين الذي ساس منطقة تلودي، وتمدد في علاقته الاجتماعية
حتي بلغ منطقة الحمادي شمالاً. بل إن كاريزما
القيادة تقودنا لذكر العمده إبراهيم عبدالله شمشم (الهاوية البتاكل جب) في تلودي، الذي بني ونسج علاقات اجتماعية عادلة مكنته من
إدارة المتناقضات الصعبة بنجاح،
وكان ذا شوكة، وأسس علاقات
محلية بين مجتمعه قامت على العدالة، والابتعاد عن القبلية، مع ملاحظة أنه حفيد شمشم الكبير الذي قاد مع أولاد دامره انتقاضة تلودي الشهيرة ضد المأمور أبو
رفاس 1906م، التي قضوا
فيها على ممثلي السلطة هناك،
وكانت سبباً في نقل العاصمة من تلودي.
بينما اشتهر من النوبة كنده كربوس بالدلنج، والمك
رحال في كادوقلي، وكانا محل هيبة واحترام النوبة والبقارة، ولا يقطع أمر في
المنطقة بدونهما. بل هنا لابد من ذكر المك ارنو مك عموم اطورو صاحب الشروط العدلية
العشرة المسماة “شروط أرنو”، التي حكم بها النوبة والعرب بمنطقة اطورو بالمنطقة الشرقية، وكانت محكمته الفدرالية
يتوافد إليها حتى
العرب البقارة؛
طلباً للعدالة،
ومحاسبة المجرمين من النوبة أو البقارة. وقطعاً، إنكم تعرفون مملكة تقلي الزاهرة التي ذاع صيتها بالمنطقة الشرقية، وكانت قبلة المهاجرين من
الفقهاء وعلماء الدين. بل كان هناك المك النور كوجينا في منطقة كندرمه “اتلبو”.
والملك جُّبر بمنطقة لُمن بالجغب من ضواحي تلودي شمالاً. بل لا ننسى المك كودي أبو
خروس من تيرا الذي مزق سياسة المناطق المقفولة، وفك الحصار بالشرقية بتعيين جد الباحث د.علي حمودة
صالح (مؤلف كتاب قبيلة الحوازمة) شيخاً على تيرا والعرب. اإها حكمة الكبار، وفعلاً، إن القيادة ملكة، ولا يشترط لها التعليم، لكنه قد يصقلها. وهناك امثلة
كثيره لقيادات الإدارة الاهلية الناجحة في
غرب كردفان، أعتذر لأن
المقال لا يسمح بالاستطراد فيها.
نعم هناك أمثلة كثيرة يصعب حصرها، ولكن لابد لنا من قراءة المتيسر
منها باستدعاء تاريخ المنطقة،
والتعمق فيه، وذلك لإثراء مادة التعايش الاجتماعي
السلمي. فكثير منا لا يعرف أن المناضلة مندي بنت المناضل العظيم السلطان عجبنا سلطان
“الاما” كانت زوجة أحد شيوخ الحوازمة عبدالعال العمدة جاد الكريم
بالدلنج. وأن الجد أحمد كباشي من الحوازمة قد قاتل بجانب السلطان عجبنا في حربه ضد الإنجليز حتى قبضوا عليهما، وأُعدما معاً شنقاً
بالدلنج. بل هناك الكثير الذي نستطيع أن نقوله في ثورة الفكي علي الميراوي، وكيف
سانده الحوازمة والمسيرية، وخاصة حادثة تهريبة في قرية الحمرة جنوب كادوقلي، عند
نقله مخفوراً من سجن تلودي الى كادوقلي. وتحملت أسرة
الطاهر تاورمن الحوازمة الكثير من المتاعب مع الإنجليز بلغت حكم الإعدام لقيامهما بعملية تهريبه.
وهذه
الوقفة كان يقدرها كثيراً الراحل يوسف كوه عندما يتجلى ويتحدث عن العلاقة مع الحوازمة. بل إن الفكي علي
الميراوي عندما قبض عليه،
وحكم عليه بالنفي بعيداً عن أهله، فضل أن يكون في ضيافة
أهله الحوازمة لا غيرهم.
ولكم أن تحسبوا كم من الحوازمة قد تسمى باسم المناضل الفكي علي الميراوي، أو السلطان عجبنا تقديراً وتمجيداً لهذه الروابط. كل هذا يعكس
تاريخ المنطقة، ومن
لم يقرأ التاريخ والدروس المستفادة منه لن يتعلم ابداً في إدارة الحاضر أوالمستقبل.
التحية لقيادة الحركة الشعبية شمال التي لم تنحز أو تجرم أي طرف في أحداث كادوقلي أو الدلنج
رغم مرارتها، والاكتفاء
بتحميل الحكومة مسؤولية
ذلك، نأياً بنفسها عن الخوض في مثل هذه التفاصيل التي ترى أن حلها سيكون في إصلاح النظام الكلي للحكم
في البلاد، وتثبيت أركان العدالة، وحق المواطنة للجميع.
ما أود تأكيده
أن جنوب كردفان جغرافيةً
وموارد هي ملك للجميع،
ولن يستطيع أي طرف إقصاء
الآخر، وقدرنا
الحتمي أن يتعايش أهلها معاً،
وأي محاولة غير ذلك ستحولها إلى
جحيم لا يهنأ به، أو يطيقه أحد. لذلك علينا
أن نستثمر في البعد الشعبي،
وأن نفرض إرادتنا
على أي خيارات سياسية تود العمل في المنطقة، مع تأكيد أن التعايش الثقافي والاجتماعي ممكن جداً، مع احتفاظ كل مجموعة
بهويتها الثقافية. ومعلوم بحثياً لدى علماء الانثروبولجيا والحضارات أنه ليست هناك
ثقافة أفضل من أخرى،
لكن قد يوجد تمايز،
وقد تسود ثقافة على أخرى نتيجة لاعتبارات اقتصادية أو اجتماعية، وقدرة مفرداتها على تلبية متطلبات حياة المجتمع.
وأخلص في النهاية إلى أن مشكلتنا في السودان كله أننا لا نفهم الدرس إلا بعد فوات الأوان، وتلقي خسائر كبيرة، والاستغراق في صراعات طويلة، ثم نتراضى مؤخراً ؛ لنصل إلى حلّ كان من
الممكن أن نبلغه مبكراً
من باب اليقظة، وليس الصحوة التي قد لا نستطيع خلالها
التمييز بين كثير من الأمور.
وفي جنوب كردفان، علينا أن نجدد ونطور مفاهيم حلف الدم، وكذلك مؤسسة شيخ الدرب، ونقول إن البقارة والنوبة في
جنوب كردفان أخوة وشركاء في الموارد والأرض، لا متنافسون عليهما بموجب حق المواطنة والأعراف، فذلك هو العلاج. وعندئذ
نسنطيع أن نخطو إلى الامام سريعاً، وبثقة وأمان، ونتفرغ للتنمية، وتطوير وبناء الذات في إطار
وطن قومي يسع الجميع.